mercredi 30 janvier 2013

صناعة الكذب



1
انتشر الخبر في مصر المحروسة بين الجميع.ظهر أوّل الأمر في المواقع الاجتماعيّة ثم تناقلته الصحفُ، جميعُها تقريبا بما في ذلك المنابر الجادّة الرصينة منها.
كان الخبر مغريا في حدّ ذاته: عالم اللّسانيّات الأمريكيّ الأشهر نعوم تشومسكي المعروف بفضحه لألاعيب السياسة الأمريكيّة الخارجيّة ونقده اللاّذع لمخطّطات مركّبات المال والنفط والسلاح في العالم يصرّح في محاضرة له بجامعة كمبريدج أنّ إحدى الدول الخليجيّة تعمل بتنسيق مع الموساد لتخريب بلدان الربيع العربيّ وعلى رأسها مصر تحت حكم الإخوان.
نُشر الخبرُ واستشهد به المحلّلون وقامت ضجّة كبرى.فالمعطيات التي تتوفّر  لتشومسكي والمعلومات التي يقدّمها على قدر عال من الوثوق والمصداقيّة.انساق الجميع في حفل استيهام جماعيّ أحدهم يزيد الدقيق والآخر يصبّ الماء والثالث يعجن والرابع ينضّج كعكة الفضيحة والمؤامرة ليأكل الجميع هنيئا مريئا.
وفي خضمّ الوليمة الباذخة لم يفتح أحد "غوغل"  بحثا عن الجملة التي قالها تشومسكي بالأنجليزيّة القحّة لا بالترجمة العربيّة المزعومة.لم يتجشّم أحد عناء التثبّت في موقع الجامعة المبذول للناس أو التفتيش في اليوتوب مثلا.لم يتوقّف حتّى المرتابون الشكّاكون قبل أن تصبح الإشاعة يقينا.
لم يكن الأمر يتطلّب ذكاء خارقا :افتحْ المواقع التي أخرجت الخبر تجدْها قريبةً من الإخوان ،مدافعة عن حكمهم.تذكّر أنّ الإمارات العربيّة المتّحدة قد ألقت القبض على عدد من المصريّين بتهمة تكوين عصابة تخريبيّة إخوانيّة الهوى والتوجّه تفهم ما وراء الخبر.
2
قبل خطاب تشومسكي المزعوم ظهر الخبر للناس في تونس مخيفا مرعبا :مراهقان في السجن بسبب قبلة.قصّة من نوادر الأخبار بطلها أخ شريف عفيف يصون العرض قدّم شكوى بأخته وقاض ، مفترض، لا يحبّ القبل  يحمي الأخلاق الحميدة ويقف سدّا منيعا يصدّ سيل التجاهر بما ينافي الحياء.
خلطة مغرية في سياق حكم ترويكا بعمود فقريّ ذي مرجعيّة دينيّة وقضاء مشكوك في استقلاليّته وحروب خاطفة لإرجاع التونسيّين إلى طريق الهدى والفضيلة وتنقية البلاد ، بعد ثورة الهوّيّة الخالدة، من شوائب الانحلال والتسيّب الأخلاقيّين وأدران الفسق والفساد.
بدأت المعركة في الفضاء الافتراضيّ صنعتها صفحات مناهضة للنهضة مرعوبة من انتشار قوس قزح غير مألوف من التيّارات الإسلاميّة.وفي الفضاء الافتراضيّ دارت رحى حرب ضروس أوقعت من المبحرين المحترمين الكثيرين، يمينا ويسارا، مناصرين لحزم القضاء ومندّدين بالاعتداء على الحرّيات الشخصيّة.
بان بعد مدّة ، وفي الفايسبوك نفسه، التزييف والتقوّل ولكن لا أحد بإمكانه اليوم أن يجزم أنّ هذا "الفَايْكْ" بلغة المتلاعبين الافتراضيّين بالعقول لم يترك أثرا من خوف في القلوب والنفوس.
لنتذكّر قبل هذا بسنتين تقريبا رسالة منديلا إلى الثوّار في تونس ومصر.خلاصتها بيّنة:عليكم أن تصفحوا عن أزلام النظامين السابقين.فالثوريّ المنتصر حليم غفور شهم أو لا يكون.انطلقوا للبناء وتحقيق أهداف ثورتكم بعيدا عن الأحقاد والضغائن.
كلّ هذا ولا رسالةَ من منديلاّ ولا هم يحزنون.وّإنّما هو خطاب منحول لزعيم مكافح دسّه المستفيدون من النظامين السابقين في تونس أومصر. رسالة أملاها عليهم صوت الرعب داخلهم وأمل ضعيف في النجاة من مشانق أكيدة لكنّها لم تشتغل.
وإنْ هذه إلاّ أمثلة ثلاثة من الإسلاميّين وخصومهم والمرتبطين ببقايا النظام السابق.فاعلون مختلفون والتقنية واحدة ، تقنية "الفايك"  والتزوير والتدليس.المقاصد متنوّعة والمضمون واحد:إيهام وتلفيق وتزييف ودجل ومغالطة وإخراج للباطل مُخرج اليقين.
3
في العالم المشهديّ ، باعتباره خلاصة الاغتراب الإنسانيّ الحديث،لا مكان إلاّ لظلال الصور وأشباحها في المرايا المتجاورة التي تبدّل الوجوه وتقلبها أقنعةَ وخيالاتٍ وصنوفا من الأكاذيب التي تتوالد ولا رقيب.مشهد يتغذّى من الزيف والبهتان وإلاّ فقد أصل وجوده وجوهر كيانه.
في مثل هذا العالم البذيء تعود دلالة النقد في لسان العرب بقوّة: تمييز الدراهم (الحقيقيّة والرمزيّة ) لإخراج المزيّف منها.
يعود الجاحظ ليذكّرنا بضرورة معرفة مواضع الشكّ ومواضع اليقين ويدعونا إلى أن " نتعلّم الشكّ في المشكوك فيه تعلّما" حتّى لاننساق إلى جهل العوامّ وهم " أقلّ شكوكا من الخواصّ(...) فليس عندهم إلاّ الإقدام على التصديق المجرّد أو التكذيب المجرّد".
ولكن ماذا لو كانت أطماع صانعيّ الأوهام في المجتمع المشهديّ تعمل جادّة لتعميم الوهم والإيقاع بالخواصّ أنفسهم في حبائل العوامّ؟  

1 commentaire:

Nadia Haddaoui a dit…

Ce sont les risques de la société du spectacle!Comment régénérer notre conscience et casser l'illusion de la binarité, telle est la question!