mardi 10 novembre 2015

الطلياني تونسياً

         
                                                     
بقلم مختار اللواتي

قليلون هم الكتاب التونسيون، من الجيل الجديد، الذين قرأت لهم. لااستنكافاُ أو تعاليا، ولكن، أولا لأنني لست باحثا أو ناقدا محترفا يقوم عملي على قراءة كل شاردة وواردة، غثها وغثها، في انتظار العثور على سمينها، ثم لأنني من جيل يرى القراءة نزهة رائقة في فضاء جميل، مهما كان الموضوع المكتوب، رواية أو بحثا أو شعراً. إتفقت مع مضمونه أم اختلفت. فكنت أبحث عن جديد من عرفت من كتاب، وكفى شيخا مثلي خيبة المجازفة!
لكن فوز كاتب تونسي بجائزة
 "بوكر العالمية للرواية العربية"، ليس أمرا يحدث كل سنة، أو ربما حتى كل عشر سنوات. لذلك خرج الأمر عن كون شكري المبخوت من كتّاب هذا الجيل أو من الجيل الذي سبقه. كتب روايات من قبل أم هذه هي مولوده البكر، لم يعد موضوعا للنقاش. المهم أن الحدث خارق للعادة بكل المعايير ويستحق التأمل. وهل يكون تأمل حدث من هذا العيار بغير سفر متأن داخل عالم "الطلياني" ، العالم الذي أقامه شكري المبخوت ونسج كل الخيوط الرابطة بين شخوصه ووقائعه وأمكنته؟
كنت ذات مساء من بداية شهر جويلية الماضي أبحث في رواق إحدى مغازات بيع الكتب والمجلات، عن مجلة "دبي الثقافية" الشهرية التي أتابع مطالعتها منذ سنوات. مررت، في طريقي، على رفوف الكتب الصادرة حديثا.. فكان "الطلياني" أول ما لمحت عيناي.. فرحت بوجود الكتاب في رفوف مكتبات دبي، فلا أنتظر حتى أسافر إلى تونس وأشتريه. وفرحت بأن أرى كتابا تونسيا معروضا خارج تونس، ليس في بعض معارض الكتاب، وإنما في عرض مستمر عادي، مالئا مستطيله على رافعات العرض بكل ثقة، إلى جانب غيره من كتب المشاهير من كل مكان. إختطفت الكتاب وكأنني أخشى أن ينقضّ عليه غيري قبلي وأن تكون تلك هي النسخة الأخيرة. إطمأننت لمَّا وجدت وراء الكتاب نسخا أخرى منه، وزادت فرحتي لما قرأت في الزاوية اليسرى أعلى الغلاف، "الطبعة الرابعة"! ياالله، كتاب تونسي يفوز بجائزة دولية شهيرة في بريطانيا وفي الغرب عموما، والآن هي كذلك في الوطن العربي، بعد إحداث نسخة عربية منها عام 2007 بالإتفاق مع مؤسسة جائزة بوكر البريطانية، وهاهو يوزع خارج تونس، وتنفد منه ثلاث طبعات؟. ولحد اليوم الذي اشتريته فيه، هو في الطبعة الرابعة!. ولاأعلم إن كان زاد عدد الطبعات بعد ذلك، أم لا!
قد يكون بديهيا أن يوزع الكتاب في دبي، وهي إحدى الإمارات العربية المتحدة التي تجتمع في عاصمتها أبو ظبي هيئة الجائزة، وتحظى بالتمويل من هيئة السياحة فيها.
كما قد يذهب البعض أو الكثير إلى التأويل أو "التكمبيص" بأن الأمر لايخلو من حسابات سياسية، وهو الكلام الذي يرافق غالبا الإعلان عن فائز أو فائزين بجوائز، سواء كان اسمها "غانكور" أو"بوكر" أو"نوبل" وغيرها..
أما أنا، فلم أنكد على نفسي بكل هذا. فقط، فرحت لهذا الكاتب التونسي ولتونس، في هذا الظرف بالذات!
إنه أول حدث يفرحني من القلب، من وعن تونس، بعد غمِّ السنوات الماضية!
صحيح، فاجأت تونس أحرار العالم في كل أصقاع الدنيا بأنها أصبحت مفرخة للإرهاب وذات الرقم القياسي في تصدير، إما مشاريع إرهابيين أو إرهابيين جاهزين، لكنه أكيد أيضا أنها يمكن أن تفاجئهم بأنها ناهضة من حطامها. وبأي سلاح؟ بالثقافة!.. وقد كان تبلور عندي هذا الموقف المتفائل عند إصدار الصديق صالح الطرابلسي منذ أشهر قليلة روايته "سنابل خاوية". وإن لم يسعفني الحظ إلى الآن باقتنائها وقرائتها.
 عدت إلى البيت، ذلك المساء، كطفل يحمل هدية بين يديه، منعه أبواه من فتحها في الشارع. ليس لأن هناك من منعني من الإنزواء في ركن المطالعة الموجود في مغازة بيع الكتب، وهو مساح موجود في غالب قاعات ومغازات ومكتبات بيع الكتب والمجلات في دبي، وإنما لأنني أردت أن أكون لوحدي أنا، وفي عالمي أنا، لأتأمل وأتمعن شيئا جميلا يخصني أنا.. هكذا قدرت الأمر.
ولكن ماإن بدأت القراءة حتى وجدت في أسلوب السرد والبناء اللغوي، تشابكا ظريفا خفيفا ممتعا، جمع بين عوالم نجيب محفوظ بأغوار نفوس وسلوكات شخوص رواياته، وصور أفلام النوري بوزيد في جرأتها وصدقها، وشجاعة عبد الجبار العش في كسر المغلق بالشمع الأحمر في الذات البشرية وطرحه في إنشاء جديد يبهر ويحزن في نفس الآن. بلغة سلسة وأنيقة في نفس الوقت، دون مغالاة أحلام مستغانمي في استطراداتها المعرفية. مع ملامسة محسوبة لعالم محمد شكري الجامح الصادم بصوره الخارجة لتوها من الدهاليز المظلمه المهجورة، قسراً أو طوعاً.
عندها، خشيت، إن تماديت، أن أكمل مغامرتي مع هذه البحار المتلاطمة في جلسة واحدة، فأستنفد نصيبي من المتعة سريعاً، وأفرِّط بهذه السهولة في هذا الجليس المؤنس لي في غربتي ووحدتي؟ قررت أن أمطط القراءة قدر ماأستطيع. أصبحت علاقتي بالطلياني، علاقة صداقة، يرافقني في حِلِّي وترحالي. إذا كنت في المترو، أكتفي بورقتين أو ثلاث، لاأكثر. وإن كنت على سفر، أرفع مدة اللقاء إلى عشر أو خمس عشرة صفحة، وأحرص أن لاأزيد! إلى أن أتيت على الرواية بكاملها، وقد نجح شكري المبخوت في مخاتلتي بنوع الخاتمة التي اختارها لروايته! وللحقيقة، إن المخاتلة لم تظهر فجأة في الخاتمة، بل هي متعمَّدة مع سابقية الإصرار منذ البداية بالعنوان الذي اختاره للرواية، "الطلياني" ! فلم يكن العنوان "المتحللون" أو "ما قبل الغروب" أو "الحصاد" أوفقط "زينة"! إنما كان.. "الطلياني"!
ماذا أقول بعد الخاتمة؟ قبلاً، أسأل، ماهو المطلوب من الرواية؟ أليس القدرة على الإبحار بك إلى عوالم، قد لاتكون تعرفها بذاتها، ولكنك ترى نفسك متآلفة مع مدن وأحياء وشوارع وحواري وأزقة كأنك عشت فيها؟. كما إنك ترى فيها نفسك متداخلة مع نفوس أخرى، إن كان تعاطفا أو تعارضا، فيعز عليك الإبتعاد عنها أو مفارقتها، ولو إلى حين؟ تأسرك اللغة وتُحلِّق بك الصورة ويستدرجك السرد إلى فضاءاتٍ، تقول إنني كنت هناك فيها ومعها، فتبين لك كلها كدنيا ثانية، لحياة ثانية، قد تكون عشتَها قبل ميلادك حتى! أفلم يبهرنا غارسيا ماركيز بحكاياه الموسومة بتلك "الواقعية السحرية"، مثلما وصفها هو نفسه، منذ "مائة سنة من العزلة"، من مسقط رأسه "أراكاتاكا" إحدى قرى كولمبيا، يتعبك البحث عنها على الخريطة، قبل الإنتقال إلى المكسيك حيث عاش العقود الأخيرة من حياته حتى المماة، دون أن تسقط قريته من ذاكرته ووجدانه؟(ستعاد رفاته، أو بالأحرى رماد جثمانه، إلى قريته في كولمبيا عما قريب). فقد أصبحت ثنايا تلك الأماكن وملامح أولئك الشخوص إمتداداً افتراضيا لمحيطنا المادي الواقعي الذي عشنا أو نعيش فيه! وقس على ذلك أسماء الفتوات والأفنديات والحواري والأزقة في روايات نجيب محفوظ، وسائر الروائيين الذين عمّرت أعمالهم في مخيلاتنا ومازالت، لما ملكوه من قدرة على النفاذ لخصوصيات لم يكن يخطر على بال الأشخاص العاديين أنها ذات بعد إنساني يلتقي عنده أهل الشرق وأهل الغرب!.
غير إن عملا كذلك ليس بالامر الهين. فهو يشترط من الموهبة، ودقة الملاحظة، وسعة الخيال، والتمكن من اللغة، والحبكة في السرد والحكي، والبراعة في التشويق، والتفرد في الأسلوب، ما يرقى بالعمل إلى حيث صفاء الروح وسكينة الفؤاد، ولن يبرحهما! . فتراك تطفو من أعماق الرواية، وقد أتيت على آخر كلمة فيها، وفي ذاتك أكثر من خيار أو من مفتاح، لتستكشف سرها الأساسي أو سر صاحبها الذي أراد أن يبوح به إليك..وإذا صادفك الحظ، تكتشف بالمرة أسراراً أخرى، تخصك أو تخص أحداً غيرك، كانت غائبة عنك، أو كنت تجدُّ في البحث عنها من قبل!. ويكون صحيحا هنا، أن الرواية الناجحة يكتبها مؤلفها، ويكملها أو يبعث الحياة فيها، القارئ حسب هواه.. وهذا لماذا لاتعجب بعض الأفلام المأخوذة عن قصص شهيرة عددا مهما من قراء تلك القصص لأنها لم توافق الصورة التي بنوها لها في مخيلاتهم.
كل هذا وجدته في رواية "الطلياني" للمبخوت!







1 commentaire:

Unknown a dit…

Effectivement c'est un très bon livre mais plusieurs références d'objets sont cités dans le bouquin qui ne n'existé pas encore durant la période des événements du livre (par exemple les cigarettes Cristal Légère, le doliprane, les simley, le papier transparent pour la conservation des aliments…).