mardi 3 juin 2014

بداية الفصل الأوّل من رواية "الطلياني"




الزقاق الأخير

   لمْ يفهم أحد من الحاضرين في المقبرة يومها لمَ تصرّف عبد النّاصر بذاك الشّكل العنيف. ولمْ يجدوا حتى في صدمة موت الحاج محمود سببًا مقنعًا.
   كان الإحساس العام أنّ النار تخلّف الرّماد. فأين وقار الحاج محمود وأناقته في جبّته السكرودة التونسيّة وشاشيّـته الإسطنبوليّ أو في بدلته الإفرنجيّة وقبّعته المستديرة، على حدّ السّواء، من طيش ابنه بسروال "الدجينز" وسترة "الدّنقري" والشّعر الأشعث واللّحية المعفاة؟ فحتى وسامة الفتى، التي جمعت جمال الأصول الأندلسيّة لأمّه وجدّته ومخايل الوسامة التّركيّة لأبيه وجدّه، تلاشت في تلك الهيئة التي جعلته أقرب ما يكون إلى "هبّاطة" الميناء و"بانديّة" الحيّ الذين لم ينالوا ولو حظًّا يسيرًا من التّعليم.
   كانت مقبرة الزلاّج في حالة خشوع، لا تسمع في أرجائها إلاّ التّكبير وأصوات القرّاء يرتّلون ما تيسّر من آي القرآن الكريم. وكان موكب الدّفن كبيرًا على قدر ما يكنّه أهل الحيّ للحاج محمود وللعائلة كلّها من تقدير. فالموتى لا يتساوون، والجنازة دليل على رأس مال المتوفّى وعلى ما في رصيد العائلة من المعاني والرموز والمكانة.
    حضر يومها، إضافة إلى العائلة الموسّعة، الجيران وأبناء الحيّ والأحياء المجاورة وأناس عاديّون عديدون وأصدقاء ابنيْ المغفور له من الفنّانين والمثقّفين والجامعيّين ورجال الإعلام وحتى رجال السّياسة وبعض الوزراء. وأكثرهم كان من أصدقاء عبد النّاصر وأخيه صلاح الدّين الباحث الجامعيّ المرموق والخبير لدى مؤسّسات ماليّة دوليّة.
  أقيمت صلاة الجنازة في الباحة الكبرى للمقبرة. فخيّم الصمت واصطفّ النّاس يؤدّون الواجب. كنت، منذ سمعت النبأ، إلى جانب عبد الناصر الذي لم أفارقه إلاّ لساعات قليلة. كان معنا جمع من رفاقنا. وقفنا على الجانب الأيمن من الباحة حذو عرصة ننتظر الفراغ من صلاة الجنازة لنشيّع الحاج إلى مثواه الأخير مع المشيّعين. اقترب منّا توفيق خال عبد النّاصر. سمعته يوشوش له، يدعوه إلى الوقوف مع الواقفين للصلاة:"عيب! التحق بأخيك في الصّفّ الأوّل ماذا يقول عنّا النّاس؟ استرنا على الأقلّ يوم دفن والدك". نهره عبد الناصر ممتعضًا حانقا:"تعرف كما يعرفون أنّني لا أصلّي ولا أصوم"
   سار الحشد وراء سيارة البلديّة في اتّجاه طريق سيدي أبى الحسن الشاذلي فتقدّم عبد النّاصر الصّفوف. التفت فلمح الإمام. كان بدينًا يلبس جبّته العكريّ. حدّق متثبّتا فوقعت عيناه على عينيه. طأطأ الإمام رأسه مرتبكًا. ظلّ ينظر إليه وهو يسير في الموكب وراء سيّارة دفن الموتى مثلنا.
   حين وصلنا إلى مكان الدّفن علت أصوات المكبّرين من كلّ جانب. وُضِع التّابوت قرب حفرة القبر وشرع في قراءة الفاتحة ثمّ تتالت الأدعية. لم يبسط عبد الناصر يديه عند تلاوة الفاتحة وترديد الأدعية دون بقية الخلق المتحلّقين حول القبر والتّابوت. رأيته شاخصًا في جارهم الإمام الذي كان يتحاشى أن ينظر إليه ويتعمّد تلاوة القرآن وترديد الأدعية مغمضا عينيه. كانت عمامته تكاد تحجب تينك  العينين.
    بدا عبد النّاصر متوتّرًا. ربّت خاله على كتفه ثمّ تفطّن صلاح الدين إلى توتّره فعانق أخاه الصّغير. سالت على خدّيه دمعات حين احتضنه. أغمض عينيه ومسح دموعه. ما إن فتحهما حتى رأى الإمام داخل الحفرة على يساره يتسلّم الجثّة استعدادًا للحدها.
   لا أحد من الجمع الغفير المتحلّق حول القبر فهم لِمَ علا صراخ الإمام. لم يشهد الحادثة إلاّ من كان في الدّوائر الأولى.
-"يلعن دين والديك، يا منافق، يا نذل، يا ساقط، اُخرج من غادي يا نيـ***.. "
   كان الإمام يتأوّه ويئنّ أنينًا مرًّا. نزفت الدّماء من فمه فاختلطت بقميصه السّكري وبدعيّته فاتحة اللّون ولطّخت قطرات منها جواربه البيضاء. كان يتألّم ويتوجّع في شبه غيبوبة.
   تعالى الصّخب واختلطت الأصوات: "الإمام غارق في دمائه"، "عبد النّاصر الطلياني ضرب الإمام"، "لقد جنّ ابن الحاج محمود المسكين"، "لا أدري ماذا وقع، لا أرى إلاّ الإمام ينزف فمه دمًا"، "الطلياني يصرخ ويسبّ الإمام"، "ابن الحاج في حالة هستيريا"، "عيب والله عيب أن يقع هذا في جنازة"، "أستغفر الله العظيم، عشنا وشفنا"، " استرنا يا ربّ".
   من كانوا في الدّائرة الأولى رأوْا عبد النّاصر يوجّه ضربة بحذاء " البرودكان" إلى وجه الإمام الذي كان في الحفرة يستعدّ لدفن المرحوم. كانت صرفقتها مسموعة ممّا يدلّ على قوّتها. دخل عبد النّاصر في حالة هيجان صارخا يرمي الإمام الشّيخ علاّلة بأقذع النّعوت التي لا تليق إلاّ بأسافل القوم. لم يكفه ذلك، ارتمى عليه يريد إشباعه لكمًا وربّما نوى خنقه لولا أنّني انتزعته منه ثمّ أخذته مع بعض الأصدقاء بعيدًا وهو سادر في صياحه وسبابه وتهديده، يرغي ويزبد إلى أن فقد الوعي.
   عجّل الحاضرون بدفن الحاج محمود ولم يقف أيّ من أفراد العائلة لتقبّل العزاء من الحاضرين. فقد ألهت الدّهشةُ الجميعَ، صلاح الدين والخال توفيق وكبار العائلة والمعزّين أيضا، عن إتمام مراسم التعزية.
   حصل هذا في أواخر شهر جوان أو بداية شهر جويلية من سنة 1990 تاريخ وفاة الحاج محمود. كان الحاضرون يومها، قد عاينوا أوّل فضيحة في الحيّ، وربّما في البلاد، يذهب ضحيّتها الميّت. 

4 commentaires:

Lotfi Aïssa a dit…

ألف مبروك ...وأصدق التهاني
ضربة نرد هي بداية كل عمل روائي. أتأمل أن يكون الحظ حليف "الطلياني"
كي يجوس عميقا في ثنايا حياتنا، منشأ السياقات الكفيلة بإعادة توزيع الأوراق من جديد

زينب a dit…

منذ قرات ذلك النص حول شكري بالعيد والتمشي في شارع الحبيب بورقيبة، اكتشفت انك روائي، وان أكثر ما كان يمتعني في حصصك، السحر السردي الكامن في الدرس، الذي بامكانه ان يتحول من درس دلالة الى حكاية تعاش على مراحل، انتظرت بقية القصة بفارغ صبر وان شاء الله لا تخيب الرواية انتظاراتي

Unknown a dit…

mabrouuk si chokri
مسار محفوظي مميز

جلال الرويسي a dit…

وهذا وجه آخر من وجوه الجامعي المثقف شكري المبخوت... أحيي فيك نجاحك في إصدار عمل فني في غمرة الانشغالات الرّسمية والأكاديمية...أتخيّل كيف كنت تهرب إلى مناخات "الطلياني" وعوالمها لتجدّد قدرتك على العمل رغم ما في الكتابة الإبداعية من إنهاك واستنزاف. أنتظر نسختي موقّعة منك أيها الرّئيس الروائي... ألف ألف مبروك