jeudi 24 janvier 2013

معركة السّلف..معركة الآتي



   1
كلّهم أدانوا ما وقع ، كلّهم تقريبًا. سخط أهالي ضاحية سيدي بوسعيد ،بسطائهم ومثقّفيهم ، تجلّى في مسيرة حاشدة باتّجاه قصر الرّئيس. شعورٌ بالصّدمة والإهانة ممزوج بغضب صارخ واحتجاج قويّ.
كلّهم أدانوا ، في الدّاخل والخارج ، كلّهم تقريبًا من رئيس الجمهوريّة إلى اليونسكو التي سجّلت ، منذ سنة 1979 ، مقام سيدي أبي سعيد الباجي ضمن التّراث العالمي في قرية هي من درر السّياحة في المتوسّط.
لم يكن أوّل مقام من مقامات الأولياء وزواياهم يعتدى عليه أو يحرق فيوصف المعتدون بالبرابرة والوهّابيّين الذين يريدون تغيير نمطِ اجتماعنا البشريّ ونظامِ قيمنا وأخلاقنا. يريدون تنقية إسلام التّونسيّين ممّا يعدّونه شوائبَ ورواسبَ وثنيّةٍ. يبشّروننا ، كما قال الآخر ، بثقافة جديدة لمجتمع جديد سرعان ما تحوّلت ثورته ، بقدرة قادر ، إلى ثورة هويّة.
انتقلت المعركة إلى مجمع الرّموز. معركة يبدأ فيها المنتسبون إلى السّلف الصّالح ، بجميع ألوانهم ، لنقل جلّها، الهجومات التّكتيكيّة الخاطفة على محاور متعدّدة ليجد خصومُهم أنفسَهم يردّون الفعل على أعمال لم تكن مسجّلة أبدًا على أجنداتهم الفكريّة أو السّياسيّة.
إنّها حرب استنزاف حقيقيّة تتّصل بأيقونات الذّاكرة فتذكّرنا جميعًا بأنّ الأقلّيات الفاعلة أخطر على النّاس من الأغلبيّة الصّامتة وأنّ حديث الهويّة ، ما فيه من أوهامٍ  واستيهاماتٍ ، يفتح علينا أبواب جهنّم سنصطلي بنارها جميعًا.
2
أغرب ما في الأمر عندنا أنّ المنتسبين إلى تيّار الحداثة ، والحداثة تفكيك ونقد وتجاوز في ما نعلم ، يتجشّمون عناء الدّفاع ، لأمر مّا ، عن الذّاكرة وينتصبون حماة للمقامات والمزارات ساخطين على الهمّج والمعتدين.
أصبح أبناء الحداثة عندنا يدافعون عمّا يعتبرونه إسلام الوسطيّة والاعتدال والتّسامح ضدّ من يحملون الرّايات السّوداء ويدعوننا إلى بناء دولة الطّهرانية الخالصة والخلافة المعطّلة ومجتمع تعدّد الزّوجات  البالغات منهنّ أو القاصرات.
 ولئن كنّا نتفهّم الحرص على شواهد التّاريخ وآثاره ومعالمه ، ومنها مقام أبي سعيد الباجي فإنّنا لا نرى صلة نسبٍ بين نمط تفكير ذاك الشّيخ العالم الرّاقد في أعلى القرية المعلّقة في السّماء الغارقة في البحر ، وبين نمط  تفكير الحداثيّين.
     لنتذكر أنّ  الزعيم بورقيبة كان من آباء التحديث عندنا،  مهما قالوا و لبّسوا و عملوا على أن ينتقموا منه و من إرثه و أن يلطّخوا صفحات تاريخه بألوان من الحقد و السموم.
      لنتذكر أنّ هذا الزعيم  أيضا كان يتهجّم على الأولياء الصالحين و نكّل برمزيّتهم و قاوم السلطة التي كانت لمزاراتهم و اعتبرهم عنوان تخلف و رجعية و طالب، و هو يربّي شعبه على قيم الحداثة، بأن يقطعوا صلتهم بتلك الترهات والخرافاتن والخزعبلات.
       نعم ، فعل بورقيبة ذلك لأنه كان، هو أيضا ، يريد أن يغيّر نمط المجتمع و نظام قيمه و يبدّل دينه من جمود لم يكن خافياً إلى حركية تربطه بالعصر و نوازله و توجهاته.
   نعم ،لم يستعمل بورقيبة ، للوصول إلى ذلك إلاّ عنفه الرمزي المسنود بسلطة الدولة الناشئة و كريزما الزعيم ذي السلطان على النفوس و القلوب .
         ولكنّ هؤلاء المنتسبين إلى ثقافة الأعراب ، وهم عند الله أشدّ كفرا ، هؤلاء الحالمين بأفق أسود سواد واقعنا البائس الحزين الطالع من ليل الفكر السحيق يعملون بدورهم، مع حفظ الفروق ومن خلال ضرب الذّاكرة ورموزها وأيقوناتها ،على تغيير نمط المجتمع والاعتقاد .
     فكأنّ كلَّ من يحلم ببناء ذاكرة دينية جديدة ومجتمع جديد يبدأ من الحلقة الأضعف فيستعيد نقاوة أصل موهوم أو يُطهّر الرّصيد الرّوحي الحاصل من أدران المدوّنة الفقهية القديمة ،. وهذه الحلقة الأضعف هي أولياء الله الصالحين الذين يمثّلون القراءة الشعبية للدين البسيط المبسّط القريب من أفهام العوامّ المؤثّر في وجدانهم وضميرهم .

 3   
 بعيداً عن المناكفة الدينية ، والمغالطات التاريخية باسم السلف الصالح أو باسم الحداثة المتباكية الخائفة، علينا أن نعترف بأنّ محلّ النزاع والمغالبة إنّما هو نمط عيشنا ووجودنا بين تحديث متعرّج ، عسير لا مناص منه و " أخونة " أو " أسلفة " مستحيلتين تاريخيا.
     فالثّابت في هذا كلّه أنّ الدين في قراءته الشعبية سيظلّ قائما شأنه شأن التصوّف العالم والرؤية السّنية الأصولية المسالم منها والمتطرّف والمساعي التجديدية في التعامل مع المتن الروحي والكتاب.
     لن يتغيّر نمط العيش والمجتمع وإن شبّه لبعضنا ولكنّ ما يجب أن يتغيّر في مجتمع حرّ تعدّدي بالضّرورة إنّما هو نمط التعايش بين النّزعات الرّوحية والفكرية والثقافية بعيدًا عن العنف والقتل والحرق.
مرة أخرى، يتلهّى أهل الحداثة و أبناء التحديث التونسي بحرب خاطفة لم يختاروها و لا اختاروا توقيتها أو فواعلها باسم الدفاع عن ثقافة  المجتمع و المحافظة على التراث.يتلهّون بذلك عن بناء ما هو خير و أبقى: إثراء ذاكرة الآتي بأفقها الكونيّ الرحب المستوعب لرصيدها الموروث استيعابَ إدماج وتجاوز.

        

2 commentaires:

illusions a dit…

تلك هي لعبة السّياسيّين، كلّ حدث يجب استغلاله لتلميع صورة او تشويه اخرى

لا علاقة للأمر في رأيي بالحداثة او الحداثيين او بالظلاميين الاصوليين كي لا اقول سلفيّين و انما هو رغبة في تغيير ما هو كائن الى ما هو ارقى و اسمى كلّ حسب مرجعيّاته

لكن ما ليس مقبولا هو فرض هذا التّغيير باستعمال العنف كسبيل اوحد لتحقيق غايات لا تحمل بالضرورة نُبلَ ما لُمّعت به

Nadia Haddaoui a dit…

Prémonitoire, non?