mardi 8 janvier 2013

الفساد المقنّن


رسالة مفتوحة إلى السّيد رئيس الحكومة المؤقّت

يطيب لي، بصفتي الوظيفيّة النّابعة من اختيار حرّ شفّاف لزملائي الأساتذة الأجلاّء، وبصفتي مواطنًا مسؤولا حريصًا من موقعه الأكاديميّ والأخلاقيّ على تنمية بلاده والمؤسّسة التي يشرف عليها أنْ أتوجّه إليكم لأطرح عليكم، بحكم موقعكم في جهاز الدّولة وصلاحياتكم الواسعة، وجهة نظري في أمرٍ مصيريّ لمؤسّساتنا واقتصادنا ومستقبل وطننا.
فقد قرأتُ لكم تصريحات تبرز عزم الحكومة على «محاربة الفساد بكلّ أوجهه وفي كلّ المجالات ولكن في إطار احترام القانون». وهو أمرٌ محمود، لا يختلف فيه مسؤولان مهما كان موقعهما بسبب أنّ الثّورة قامت ضدّ الفساد ونتائجه المدمّرة للبلاد والعباد وبسبب استفحال الفساد، وهذه مفارقة كبرى، بعد الثّورة. وأنتم أدْرَى منّي بتراجع تصنيف بلادنا إلى المرتبة 75 في سلّم الدّول الأكثر فسادًا في العالم حسب ما تزعمه منظّمة الشّفافيّة الدّوليّة بعد أن كانت في المرتبة 59 سنة 2010.

ولقد قرأت لكم بالتّوازي مع ما ذكرت، حديثًا غريبًا، وإن كنتُ لم أستغربه لأسباب أنا لك ذاكرها بعد حين، عن التّنمية في الجهات خلال سنتكم الأولى من الحكم. وقدّمت أرقامًا لَمْ أَرَ أنّها أثارت انتباه المعلّقين ولا استدعت تساؤل المحلّلين الاقتصاديّين وغير الاقتصاديّين.
من ذلك ذكرك لنسبة 60 % من إنجاز ميزانيّة التّنميّة بعد ستّة أشهر من عمل الفريق الحكومي. وقد فسّرت التّأخير في الإنجاز بتدهور الظّروف الأمنيّة مقدِّمًا ولاية سليانة مثالاً على ذلك رغم أنّ الأحداثَ وقعت في الثّلاثيّة الأخيرة من السّنة الحاليّة أي بعد أكثر من عشرة أشهر.

وذكرت، في ما اطّلعت عليه من تلخيص للّقاء الذي أجريته مع إحدى القنوات التّلفزيّة التّونسيّة، مبلغ 6200 مليار من الأموال المرصودة للجهات ولكنّها لم تصل إلى تلك المناطق ومن ثمّة نفهم أنّها، على ضخامتها النّسبيّة، ظلّت حبرًا على ورق وأرقامًا افتراضيّة لا أثَرَ لها في الواقع.
وكرّرتَ مرّة أخرى رجاءَك في ألاَّ تُعطِّل الأحداثُ الاجتماعيّةُ في هذه السّنة (2013) آلةَ إنجاز المشاريع الموعودة وقد رأيْنا على الشّاشاتِ، يوم الاحتفال بالذّكرى الثّانية للثّورة في سيدي بوزيد (17 ديسمبر 2012)، السّيد رئيس الجمهوريّة المؤقّت في حيرةٍ من أمره بعد الوعود التي قطعها على نفسه، ونفس الدّولة، منذ سنة خَلَتْ. ومأتَى حيرتِه أنّ الأموال، على ما زعم، قد رصدت في الميزانيّة ولكنّه لم ير تنمية ولا مشاريع ولا هم يحزنون. فحيرته جزء من حيرتكم ومن مارس التّصرّف في ميزانيّة الدّولة لا يحتار بل يتحسّر على الإصرار على الخطإ. فإذا عُرِفَ السّببُ كما قالت العربُ بَطُلَ العَجَبُ وزالتِ الحيرةُ.

السيد رئيس الحكومة ،
لستُ مختصًّا في الاقتصاد ولكنّني، من خلال أداء مهمّة الأمر بالصّرف في مؤسّسة من مؤسّسات الدّولة وإن كانت ذات خدمات مخصوصة بحكم صبغتها الأكاديميّة، فإنّني أترجم كلامَك في مصطلحات ماليّة على نحو مغاير أحاول به تخليص التقني المالي من السّياسي. فيكون مفاد قولك أن الحكومة التي تشرفون عليها لم تصرف ميزانيتها لسنة 2012 كاملة وبقِيَ منها (على الأقلّ ما يخصّ التّنمية!) 40 % ولا أظنّ أنّ هذه الأموال المرصودة قد صُرِفَتْ في ما تبقّى من شهر ديسمبر الذي قمت في بدايته بلقائك التّلفزيّ.
ولو فعلت، أنا هذا، في الجامعة التي أشرفُ عليها لاعتُبِرْتُ، في نظر وزارتي ووزارة الماليّة ورئاسة الحكومة، متصرِّفًا سيِّئًا في الميزانيّة وربّما خفّضوا لي الأموالَ المرصودة في الميزانيّة المقبلة.

غير أنّني أتفهّم الأسبابَ التي ألخّصها في عبارة على قياس بيتٍ شعريٍّ للمتنبّي «في الوزارةِ الأولى الخصام وهي الخَصْمُ والحَكَمُ». فما ذكرته، معالي الوزير، تعيشه جميع المؤسّسات العموميّة بسبب «إمبرياليّة» الوزارة الأولى ووزارة الماليّة وبسبب التّصوّرات الفاسدة عن حماية المال العمومي التي ورثتها وزارتكم وما تزال متشبّثة بها تشبّث البخيل الذي ضاع في التُّرَبِ خاتَمُه. وهنا بيتُ القصيدِ في رسالتي التي بدأتْ بحديثِكَ عنِ الفسادِ واستُؤْنِفَتْ بحديثك عن ميزانيّة التّنمية.
فإذا كان للفسادِ المستشري في قطاعات عديدة تتلاعب بالمليارات آليّاته وأسبابه فإنّ في الدّولة فسادًا من صنفٍ آخرَ يعطّل التّنمية ويبعث اليأسَ في النّفوسِ ويكبِّل القائِمين على المؤسّسات العموميّة، ويمنعهم من النّهوض بها. وهو ضربٌ من الفساد، اسمحوا لي، بأنْ أُتّهَمَ في الضّلوع فيه الوزارة الأولى وقوانين الدّولة. وإليكم بعض التّفصيل.
يبدأ الفسادُ، سيّدي الوزير، عند تقسيم الميزانيّة نفسها. فلا معايِيرَ واضحة شفّافة لِمَا يُسْنَدُ إلى هذه المؤسّسة أو تلك ولا عقدَ رابطًا بين المؤسّسة المعنيّة والوزارة المشرفة. إنّنا نسير على غير هدًى، في الأغلبِ الأعمّ، لا نعرف واجباتنا ولا التزاماتنا. فسلطة الإشراف هي التي تمسك بزمام الأموال وتقسّمها بمعايير لا تعلمها إلاّ هيَ. وهو أمْرٌ يدعّم اختلال التّوازن بين الالتزامات والأهداف ويترك مدخلات العمليّة كلّها في أيدي الوزارات المركزيّة. هذه مركزيّة موروثة عن دولة الاستبداد القصد منها أنْ تُحاسِبَ متى تشاء ولا أحد بإمكانه محاسبتها كالإله الخفيّ يفعل ما يريد. فكيف للعبد المأمور الذي لم يشارك في صنع القرار أنْ يتحمَّسَ لتطوير مؤسّسة وتنميتها؟
وإذا سلّمت بهذه الطرّيقة المستبدّة غير العقلانيّة في توزيع ميزانيّات الوزارات على المؤسّسات التّابعة لها بدأت أوجاع الرّأس والقلب جميعًا. والسّبب فيها أسلوب في المحاسبة العموميّة بالٍ متخلّف أُثبِتَ تاريخيًّا وواقعيًّا عدم نجاعته لا في تيسير صرف الميزانيّات فحسب بل في حماية أموال الدّولة بالخصوص.

فقد وُضِعَ على أساس منطق المحاسبة القبليّة لتأمين أموال المجموعة الوطنيّة حتى تعرف بطريقة سلميّة لا تتلاعب بها أيادي السّوء. فالآمر بالصّرفِ مُتّهََمٌ قبل أنْ تثبُتَ إدانته في كلّ ملّيم مهما كان، يتربّص به جيشٌ من مراقبي المصاريف الذين تشغّلهم الوزارة الأولى وتسلّحهم بقوانين متخلّفة بكثرة إجراءاتها وتعقيداتها وبمناشير بائسة أساسها المنع والتّعطيل لا التّيسير والتّعجيل كأنّ الأصل في المعاملات الماليّة للمؤسّسات هو سرقة أموال الدّولة لا صرفها في ما ينفع.
وقد كنّا نرضى بهذه التّعقيدات والإجراءات وضروب المراقبة لو أدّت بالفعل إلى حماية المال العام، وقد كنّا نصبر على طول آجال التّنفيذ والتّشكيك في كلّ شيء لو صان حقوق الدّولة ومساهمات دافعي الضّرائب. ولكنّ الواقع أثبت من قبل، وما يزال يثبت رغم تقارير دائرة الزّجر الماليّ، أنّ السّرقات الحقيقيّة للمال العامّ تتمّ بطريقة قانونيّة لا يستطيع أيّ مراقب للمصاريف أن يضع يده عليها بل يُمضي بالموافقة راضيًّا مرضيًّا في حين أنّ الماء يجري تحته أنهارًا من الفساد والمحسوبيّة والرّشوة حتى أضحت المراقبة الماليّة جهازًا متضخّمًا يمتلك سلطة واسعة للتّعطيل وإطالة مدد التّنفيذ دون أن يكون قادرًا فعليًّا على حماية المال العام.

سيّدي الوزير،
لسنا ندعو إلى ترك حبل التّصرّف في المال العام على غارب الأهواءَ وأخلاق الأفراد ولسنا نطلب حلّ جهاز الرّقابة الماليّة ولكنّنا نودّ لفت الانتباه إلى أنّ ما يقع يوميًّا بسبب هذه الآليات في المراقبة هو عين الفساد والإفساد من حيث قُصِدَ الإصلاح والحماية.
فأن يكون الطّلبة دون قاعة تدريس أو أثاث بيداغوجي أو حافلة للدّروس الميدانيّة أو حواسيب من صنف رفيع، وأن تظلّ مؤسّسات عديدة في حالة مزرية متقادمة، بناءاتٍ وأثاثًا، ودون الحدّ الأدنى من التّجهيزات ووسائل النّقل، أن يكون هذا وغيره كثير موجودًا يدرك عيانًا ويكون المال، في الآن نفسه، متوفّرًا في المؤسّسات الجامعيّة التي تعجز عن صرفه لطول الإجراءات وتعقيدات القوانين ووجوب المراقبة القبليّة ومناشير الوزارة الأولى وتراخيصها التي قد تأتي وقد لا تأتي (وهو الغالب) إنّما عين الفساد والإفساد.
هو عين الفساد لأنّنا نرى الاعوجاج والخلل والخطأ المنكر ولا نصلحه، وهو عين الفساد لأنّنا نأخذ أموال دافعي الضّرائب ولا نصرفها في الصّالح العام.
وهو عين الفساد لأنّنا مسؤولون عليه نتعلّل بالخوف من مخالفة القوانين ولا نخاف شعبنا الذي ينتظر منّا إنجازات حقيقيّة نحن قادرون عليها ولكنّنا نخشى الوقوع في الخطإ.

فما معنى مثلا، وهذا مجرّد مثل نضربه، أنْ تفرض قوانين المنافسة المزعومة والشّفافيّة الكاذبة أن تشتري المؤسّسات الجامعيّة الحواسيب بالثّمن الأقلّ ولكنّها سرعان ما تصبح غير صالحة رغم المواصفات التي توافق عليها وزارة تكنولوجيّات الاتّصال والحال أنّ الجميع يعرف أنّها غير صالحة ؟ أليس هذا هو عين الفساد ؟ وما معنى أن تمنع الوزارة الأولى اقتناء السّيّارات الإداريّة والسّيّارات الوظيفيّة على مؤسّسات الدّولة وتحصرها في الوزارات ولا ترخّص للمؤسّسات رغم أنّها تعلم علم اليقين تقادم أسطول السّيارات وتعرف حقّ المعرفة أنّ ما يُصرَف عليها من أموال الإصلاح يفوق اقتناء الجديد منها ؟ أليس هذا هو عين الفساد المقنَّن وبمباركة من الوزارة الأولى التي تشرفون عليها ؟
وما معنى ألاّ يكون للآمر بالصّرف حقّ تأجير كلّ من يقدّم خدمةً لمؤسّستِه دون الرّجوع إلى هذه الوزارة أو تلك وأحيانًا إلى الوزارة الأولى نفسها وهي أجورٌ حين نتثبّت لا تمثّل شيئًا بحكم تقنينها بطريقة عبثيّة غالبًا ما تمنع الخبراء من أنْ يتحمّسوا للمشاريع التي يُشَرَّكون فيها وتجعل مُسْدِيِي الخدمات يفضّلون تطبيق المثل الشّعبي "مخزن مغلق خير من كراء لا نفعَ فيه" ؟ أليس هذا هو عين الفساد ؟
وعلى هذا لَكَ سيّدي الوزير أن تقيسَ الأشباهَ والنّظائرَ. والحلّ واضح لك ولنا : لا بدّ من إضعاف مركزيّة القرار، لا بدّ من عقود تربط المؤسّسات العموميّة بالدّولة (وزارات وحكومة)، لا بدّ من حرّية واسعة في التّصرّف مع كثير من المحاسبة البَعْدِيّة. لا بدّ من استقلاليّة الجامعات وتمكينِها من أنْ تُطوِّرَ نفسَها في إطارِ الشّفافيّة وتحمّل المسؤوليّة.

وما لم تفهم الوزارة الأولى أنّها موجودة لتُسيِّرَ لاَ لتُهيْمِنَ وأنّها ليست أهمّ من المؤسّسات التي تواجه الواقع اليوميّ الصّعب وأنّها مطالبة بالتّنسيقِ لا بالتّوجيه والإملاءات فإنّنا سنظلّ دائمًا على هذه الحال البائسة : نخضع لقوانينَ معطّلة فنعتادها ونتآلف معها فنخاف المساسَ بها فتبقى الأمور كما هيَ لا تتقدّم إلاّ بعد فواتِ الأوانِ لنَجِدَ أنفُسَنَا أخيرًا ضمن منظومة الفساد غير المعلَن فرحين مسرورين بأنّنا لم نسرقْ أموالَ الدّولة وندّعي شرفًا لسنا جديرين به لأنّنا أضَعْنا فُرَصًا عديدةً متلاحقةً لتطويرِ مؤسّساتِنا.
لهذا كلِّه، سيّدي الوزير، أدعوكم إلى تحديدِ مَوَاطِنِ الخَلَلِ في منظومة الفسادِ الخفيِّ الذي تعيشه مؤسّساتُنا ولا تعاقب عليه لأنّه مقنَّن أمّا الفساد المعلَن فهو واضحٌ جليٌّ. والطّريقةُ في مقاومته معروفة للجميعِ.
إنّ إرثَ الدّكتاتوريّة لن يصفّى إلاّ بالقضاء على عقليّة الدّكتاتوريّة ومن وجوهها مركزيّة القرار والمحاسبة القبليّة وترسانة القوانين المعطّلة للمؤسّسات عن أداء مهامّها. اِبدؤوا، سيّدي الوزير، بالكَنْسِ أمام الوزارة الأولى، عندها سيتداعَى بُنْيَانُ الفساد في المؤسّسات العموميّة.

2 commentaires:

Lotfi Aïssa a dit…


أسمعت لو ناديت حيا...أرجو أن يكون في الوزارة الأولي أحياء عند شعبهم يرزقون

أبو بكر العيادي a dit…

تشخيصك للوضع، صديقي العزيز، صائب، فهو نابع من موقع المسؤول العارف بمساوي الإدارة، ولكنه صرخة في واد غير ذي زرع. فرئيس الوزراء الذي تتوجه إليه راضٍ عن أدائه حدّ الانتشاء، وحكومته التي لم يشهد لها تاريخ الأمم مثيلا كمّا وكيفا لا همّ لها سوى نيل نصيبها من الغنيمة، سواء بالاستيلاء على المال العام بأكثر من وسيلة، أو بإيثار المقربين غير الأكْفاء بالمناصب. والجميع يلتقون في قلة الخبرة وضعف المؤهلات، ويلتقون أيضا في غياب المشروع السياسي وسوء النية. فلا مجال إذن للقضاء على منظومة الفساد، المعلن منه والخفيّ، وهم يستجيرون بأزلام بن علي وبارونات المال الفاسد للمسك بزمام السلطة خالدين فيها أبد الدهر، كذا الأمن والقضاء وسائر مؤسسات الدولة. صحيح أن الطريقة في مقاومة الفساد معروفة للجميع كما تقول، ولكن العمل بها رهين إرادة سياسية، للأسف، لا يزال الشعب المهدد في أمنه وغذائه ينتظرها كما ينتظر غودو جمهورُ صامويل بيكيت.