dimanche 27 mai 2012

هجاء البطء... مديح الجرأة




وَاهِمٌ من يعتقد أنّ الاستشارة الوطنية حول منظومة التّعليم العالي والبحث العلمي ستفتح لنا الطّريق لبناء جامعتنا الجديدة، ولكنّها خطوة لا مناص منها.
فبعيدًا عن التّفاؤل والتّشاؤم سنمرّ بفترة يصعب معها ولادة المنظومة الجامعيّة الجديدة وانهيار القديمة. إنّه التّعريف نفسه للحالة الثّورية التي قد تطول إلى حدّ الملل ويعسر أن نتخلّص من آلام مخاضها وأوجاعها الممضّة. فحجم الخراب والتخريب السّاكن في التفاصيل والجزئيات أكبر ممّا قد يذهب في ظنّنا. ولكنّ التّعلّق بالتّفاصيل ومعالجتها عبث محض، في تقديرنا، شأنه شأن تقويض المنظومة من أساسها. فالخسارة في الحالتين أكبر والرّبح ضعيف.

وعلينا أن نعترف بأنّه لا أحد، سلطةً وأحزابًا سياسيّة ومنظّماتٍ نقابيّة وهياكل أكاديميّة منتخبة، يمكنه اليوم أن يدّعيَ امتلاك تصوّر للجامعة بديل أو حلول لمشاكلها المتفاقمة ناجعة. لذلك لا سبيل إلاّ سبيل التّشارك والتّحاور والإصغاء إلى الأطراف جميعًا. فالتّجارب موجودة قائمة لا تتطلّب منّا أن نعيد ابتكار العجلة أو أن نُيمّم شطر البلدان التي نجحت منوالاتها في التّعليم العالي. إذ يكفي الضّغط على لوحة مفاتيح الحاسوب لنرى المنظومات جميعا أمامنا. ولكن الإشكال في تنزيل الخبرات والمعايير الدّولية في سياقنا التونسي لتكون الجامعة عندنا موافقة للمعايير الدّوليّة في التعليم العالي والبحث من جهة ومتناسبة مع الحاجيات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافية لبلادنا من جهة ثانية عسى أن نخرج ممّا وقعنا فيه عند اعتماد منظومة "إمد" : ألبسوها جبّة تونسيّة فخسرنا روحها وأهدافها وقصدوا منها التّلازم مع المعايير الدّوليّة فجاءت مسخًا مشوّها تَوْنَسْنَاها فخرّبناها.

والدّرس الذي علينا استيعابه هو أنّ علّة منظومتنا الجامعيّة لا تكمن في "إمد" في حدّ ذاتها وإنّما هي كامنة في أنّ إدارة الفضاء الجامعي قائمة على مركزيّة مفرطة في التّصوّر واتّخاذ القرار والإنجاز وفي نزعة تسلّطيّة للانفراد بالقرار والتّوجيه والمراقبة القبليّة. كلّ ذلك رغم أنّ التّوجّهات العالميّة في مجال حوكمة الجامعات ومؤسّساتها تنبني على اللاّمركزية والمشاركة والقرب وتحمّل المسؤولية والمحاسبة البعديّة.
وما لم تتغيّر آليات التّسيير والتّصوّرات القائمة في مجال اتّخاذ القرار فإنّ أيّ إصلاح مآله الفشل الذّريع. ولكن علينا أن نعترف بأنّ الأمر ليس موكولا للمسؤولين على الجامعات والمؤسّسات المنتخبين ديمقراطيّا. فقد تقدّموا إلى الانتخابات مفعمين بآمال عريضة لتغيير ما بمؤسّساتهم الجامعيّة طامحين إلى الرّفع من أدائها وجودة خدماتها.
وسرعان ما اكتشفوا أنّ الآمال والطّموحات لا تكفي لأنّ النّظام مغلق بإحكام تمسك ببعض مفاتيحه الوزارة الأولى وبيروقراطيتها. فهي الآمرة النّاهية بمناشيرها وتعليماتها ومراقبتها وادّعائها امتلاك الحقيقة فتَسْأَلُ وتسائل الجميع ولا تُسألُ عمّا تفعل وبعض المفاتيح الأخرى لدى الإدارة المركزيّة في وزارة التّعليم العالي. وهي إدارة لا تملك أيّ تصوّر ولو كان مرحليا متدرّجا لمعالجة القضايا المتراكمة والمشاكل العديدة ولن يوجد هذا التّصوّر مهما حسنت النّوايا لأنّ تطوّر التعليم العالي أصبح يتجاوز قدراتها وإمكاناتها.

إنّ هذا كلّه لا يتماشى مع مفهوم الحرّيات الأكاديميّة والحوكمة الرّشيدة للجامعات حسب المعايير الدّوليّة. ومن مفاتيح الحلّ بالنّسبة إلينا العودة إلى المبادئ التي نجحت بها الجامعات في العالم وهي مبادئ عقلانيّة بسيطة أساسها الاستقلاليّة والشّفافيّة والمحاسبة.
ومن هنا فإنّ المطلوب اليوم مرحليًّا واستراتيجيًّا إعادة صياغة العلاقات بين سلطة الإشراف والجامعات والمؤسّسات المنضوية تحتها على نحوٍ يؤكّد مبدأ التّعاقد والمسؤولية ويُجسّم التّصرّف حسب الاهداف بالمحاسبة البعديّة وتركيز آليات الجودة والتّقييم والاعتماد. وحجر الزّاوية في هذا كلّه إنّما هو استقلاليّة الجامعات.

وهو ما تسمح به القوانين الجاري بها العمل ولا يمثّل شيئا ثوريًّا جديدًا بقدر ما سيكون وجهًا من وجوه تطبيق القانون مع تعديلات طفيفة. غير أنّ الإرادة السّياسيّة التي ستقف وراء هذه الخطوة ستكون فعلاً ثوريّة.
مرّة أخرى، لا نطالب بإعادة ابتكار العجلة.. نريد مشاركة في هجاء البطء والتّردّد والانتظار ومشاركة في مديح الجرأةِ والنّجاعة والحماسة للتّغيير الفعليّ... باتّجاه المستقبل.

4 commentaires:

Lotfi Aïssa a dit…

لا نطالب بإعادة ابتكار العجلة.. نريد مشاركة في هجاء البطء والتّردّد والانتظار ومشاركة في مديح الجرأةِ والنّجاعة والحماسة للتّغيير الفعليّ... باتّجاه المستقبل.
هل بعد هذا من حاجة لبيان حتى وإن ماحك الكثيرون بأن "دخول الحمام ليس كالخروج منه"...يكفي أن نعقلها ثم نتوكل

Abdelouadoud El Omrani a dit…

في هذه الأيام التي ينتشر فيها النحيب واللطم وشتى ضروب الصراخ والعويل، يستمتع المهتم بالشأن التعليمي والوطني عموما عندما يقرأ مقالا فيه التوصيف والعلاج وليس مجرد "التخرنين" شكرا سي شكري وأقتبس

ومن مفاتيح الحلّ بالنّسبة إلينا العودة إلى المبادئ التي نجحت بها الجامعات في العالم وهي مبادئ عقلانيّة بسيطة أساسها الاستقلاليّة والشّفافيّة والمحاسبة.
ومن هنا فإنّ المطلوب اليوم مرحليًّا واستراتيجيًّا إعادة صياغة العلاقات بين سلطة الإشراف والجامعات والمؤسّسات المنضوية تحتها على نحوٍ يؤكّد مبدأ التّعاقد والمسؤولية ويُجسّم التّصرّف حسب الاهداف بالمحاسبة البعديّة وتركيز آليات الجودة والتّقييم والاعتماد. وحجر الزّاوية في هذا كلّه إنّما هو استقلاليّة الجامعات.

عبدالودود العمراني
خبير ثقافي

Transport a dit…

شكرا على الموضوع

Räumung a dit…

Allah grant you success all that is valuable .. Where new themes ?!