شذرات الثورة
1
يحقّ لنا ،في تونس اليوم ،أن نستعيد من ذاكرة الثورات طلب المستحيل مثلما استعادت ثورة ماي 68 المفارقة الفاتنة في عبارة المجاهد الأمميّ شي غيفارا :" كونوا واقعيّين ، اُطلبوا المستحيل".
يجب علينا في تونس اليوم التي استلهمت من قصيدة شاعرها الرائي شعار " الشعب يريد..."أن ننتبه إلى الصلة العميقة بين الطباق البديع الذي جمع ،في شعار غيفارا، إلى الواقعيّة طلبَ المحال من جهة والتشارط القويّ في افتراض أبي القاسم الشابّي استجابة القدر لإرادة الشعب من جهة أخرى.
2
طرحت إحدى القنوات ، في ليلة من ليالي القدر الممكنة ،مسألة "كلاميّة" حول الوحي والنصّ في فكر المسلمين ووجدانهم.فطفق بعض الفايسبوكيّين يعترضون على طرح المسألة أصلا للنقاش.
وإذا صرفنا النظر عن تهم تقليديّة تتصل بــ"التهجّم على الثوابت" ووجود "مخطط لضرب العقيدة" فقد قرأنا في بعض التعاليق حديثا عن أن المسألة من اختصاص النخبة لا تفيد "العامّة الذين مسّهم البرنامج في معتقدهم" لأنّ "المتلقّين " بسطاء" (كذا !) وهم " جمهور من الدهماء لم تخرج من مراتع الجهل بكل من التراث وبمكاسب العلوم الإنسانيّة".
ثمّ إنّ النقاش " في مثل هذا الوقت هو حقّ أريد به باطل" وكان من الأجدر صرف هذا الوقت في "مناهضة المعتدين الأجانب على العباد والأرض في ليبيا" حسب أحد المعلّقين.
وقرأت صدفة لأحد الأقلام الصفراء بصحيفة ( صفراء فاقعة) تعليقا على سحب الحكومة لتحفظاتها على اتفاقية القضاء على كلّ أشكال التمييز ضد المرأة ( سيداو).وحجته أن القرار اتخذ في غفلة من الشعب الذي لم يستشر ولم يؤخذ رأيه وكان من الأجدر للحكومة المؤقّتة " التي تنتهي مهمّتها بعد أسابيع قليلة" أن تترك الأمر لما بعد الانتخابات المقبلة.وينتهي المقال بالحجّة المتعاودة" ما قيمة وما أهمّيّة رفع التحفّظات التي لها علاقة بهوّيّة الشعب التونسي ولها صلة بتشريعاته الدينيّة ولها ارتباط بخصوصيّته الثقافيّة".
3
تختلف القضايا والمضامين ولكنّ الخطاطة واحدة:
حجّة الشعب ( ومشتقاته التي تتبدّل بحسب السياقات والمقاصد كالدهماء والجماهير والجهلة والبسطاء ...) احتقارا لهذ الكتلة المبهة من القاصرين أو إعلاء من شأن هذا الكائن الهلاميّ الموحّد الواحد الأحد.
و حجّة التوقيت ومدى مناسبة طرح هذا الموضوع أو ذاك و اتخاذ هذا القرار أو ضدّه.
بيد أنّ المبتدأ والخبر واحد :هويتنا وعقيدتنا وثوابتنا وخصوصيتنا الثقافيّة حتّى أصبح الأمر واضحا فاضحا:كلّما تعلّق الأمر بحالنا الثقافيّة واستتباعاتها الاجتماعيّة والحقوقيّة وتصوّراتنا عن الوجود والإنسان والإله استنجد بعضنا بالشعب وحسّه المشترك وبالتوقيت ومدى مناسبته.
ولكن لنتصوّر أنّ النقاش عن الوحي والنصّ كان لتكرار التصوّرات الكلاسيكيّة التي استقرّت في التقليد الثقافيّ السنيّ الأشعريّ ولنتصوّر أنّ الحكومة لم تستجب لضغط بعض قوى المجتمع المدني المنادية بالمساواة التامّة بين الجنسين وتمّسكت بالتحفّظات القديمة أكان لحجّتي الشعب والتوقيت مكان ؟
4
نتفهّم لدى شقّ من أبناء بلدنا هذا الخوف.
إنّنا نعيش الرهبة من الفوضى وبلبلة الأفكار وتغيير العقائد والإيديولوجيّات فكلكل القمع ومنع المجتمع من التعبير عن تناقضاته على نحو مدنيّ كلكل ضاغط قاهر.
إنّنا نعيش قلقا عميقا من الآتي وما يخفيه (وإن كان مجلسا تأسيسيّا وحكومة شرعيّة ورئيسا جديدا) فشبح الدكتاتور مازال يحوم على مدينتا ويعمّر أفئدتنا.
إنّنا نعيش تهديدات مختلفة لهويّة تشكلت تاريخيّا في الضمير الجمعيّ والمخيال فما زلنا واقعين بصور مختلفة تحت صدمة الحداثة المعطوبة التي لم تزدها العولمة وسهولة حركة الأفكار والأوهام والأخطار إلاّ هزّات ارتداديّة لزلزال هزّ الوجدان هزّا.
ولكن الحاصل أنّنا بقلقنا ورهبتنا وأوهامنا عن ذواتنا كمن ينتظر البرابرة الذين لن يأتوا فنستسهل الحدّ من الحريّة : حرّيّة بسط الأفكار المفزعة والآراء غير المألوفة والقضايا التي تبدو لنا محرّمة والمسائل التي نتوهّم أن القول الفصل فيها قد قيل.
غير أنّنا نظنّ أنّ كرامة الإنسان وحقوقه وحريّته وانتفاعه بمحصول الذكاء البشريّ بتنزيله في السياق الثقافيّ والاجتماعيّ المخصوص لا ينتظر المجالس التأسيسيّة وألاعيب السياسيّين ضيّقي الأفق وحرّاس الهوّيّة المتعطّلة ومناورات المختصّين في ربح الوقت على حساب مسارات التاريخ البشريّ الواضحة.
لنتذكّر فقط أن من حجج الأنظمة الاستبداديّة السمجة لحرمان الناس من حرياتهم الفرديّة والجماعيّة وحقوقهم المعترف بها دوليّا ما كان يستند إلى الخصوصيّات الثقافيّة سواء عندنا في فضائنا العربيّ الإسلاميّ أو في ما شابهه من الفضاءات.
5
ليس من باب الصدفة أنّ الأسئلة الجذريّة التي تطرح في بلادنا على نحو علنيّ وإن في إطار استقطاب بذيء بين السلفيّين والحداثيّين يعسر أن نجدها بالعمق نفسه في بلد ذي تاريخ ثقافيّ عظيم مثل مصر.
ويعود هذا في تقديرنا إلى ما يبدو لنا استثناء ثقافيّا تونسيّا في العالم العربيّ بفضل نخب عُرفت بحسّ نقديّ حادّ واطلاع محترم على ما يعتمل في الثقافات المتوسّطيّة بالخصوص واتصال لم ينقطع بالأسئلة المطروحة في الفضاءات الدوليّة.والمفارقة أنّ بعض الإسلاميّين التونسيّين أنفسهم استفادوا من هذه الحركيّة الفكريّة والثقافيّة فتميّزوا مقارنة بالحركات السلفيّة والإخوانيّة السائدة في المشرق وفي جزء من المجال الأسيويّ بل في الفضاء المغاربيّ نفسه.
6
لو فكّر المصلح الزيتونيّ الطاهر الحدّاد في أمر المرأة والأسرة والمجتمع تفكيرا يراعي الجمهور والدهماء والتوقيت والظروف والأولويّات لاحتفظ بامتيازاته شيخا جليلا يبيع بضاعة مطمئنة مكرّرة لما حفظ من المتون والحواشي.
ولو فكّر المبدع أبو القاسم الشابيّ في الخيال واللّغة التي نقول بها الوجود والوجدان تفكيرا مشدودا إلى مقرّرات البيان يستعيد ذاكرة البديع وتقاليد القول وعمود الشعر لما دعا الناس إلى النور و" النور عذب جميل" .
ولو فكّر المحامي المثقّف الحبيب بورقيبة في الدولة والعائلة والتربية والتعليم والقضاء الموحّد بمنطق العرف والعادة وما يقبله الحسّ المشترك لما صنع جيلا قادرا على حفر قبور المستبدّين الجهلة وعلى تفكيك جهاز الحزب العتيد الذي بناه ، ويا للمفارقة ،بورقيبة نفسه .
لقد كانوا واقعيين جدّا فطلبوا المستحيل الذي لم يخطر على بال جماهير شعبهم أصلا ضمن جدليّة أصيلة توسّع فضاء قول ما لايقال ليدخل مجال المفكّر فيه وتصنع أسئلة صادمة حارقة تهدم بقدر ما تبني.
7
يحقّ للسياسيّ أن يمارس لعبة الممكن بمرحليّتها وتوقيتها ومراعاتها للظرفيّ والتكتيكيّ وله أن يرضخ للحسّ المشترك ويتلاعب بالقلوب والعقول في ركونها للثوابت واحتمائها بالهوّيّة الجامدة.
ولكن من واجب المثقّف التونسيّ الأصيل أن يواصل تقاليد ثقافته التحديثيّة صانعة الأسئلة الجديدة في ضرب من طلب المستحيل الذي يوسّع هامش الحرّيّة ويقلّص من متن المحرّم والممنوع.
8
يبدو لي أنّ الواقع والممكن والضروريّ والظرفيّ مفردات من معجم السياسيين تنتهي بهم إلى الحدّ من الحرّيّة باسم " المسؤوليّة الوطنيّة" مثلا أو " المصلحة العامّة" أو " هوّيّة البلاد والعباد" .
وإنّها لخيبة فاضحة قاتلة أن يقتفي المثقّف الأصيل خطى السياسيّين فلا يتحصّن بالإرادة القويّة ضدّ الواقع البائس وبالخيال الخلاّق ضدّ الممكن الكاذب وبالرغبة الجامحة ضدّ الضرورة القاسية وبمطلق الحرّيّة ضدّ الظرفيّ التكتيكيّ العابر.
9
يبدو لي أيضا أنّ ثقافة الثورة تحتاج إلى مثقّفين لا تستهويهم شهوة السلطة ولا تنطلي عليهم ألاعيب حماة النظام الكائن أو الذي سيكون ولا يتنازلون لميكانيكيّي الإيديولوجيّات الزائفة والعقائد الجامدة ولا يتورّعون عن فضح الكتبة الذين يزوّقون الابتذال السائد.
إنّ مثقف الثورة العميقة، بعيدا عن ريطوريقا الثورجيّين وخارج دوائر الفعل السياسيّ النفعيّ، إذا أراد الحياة سيكون واقعيّا من طالبي المستحيل والقدر مستجيب لا محالة وإن بدا بعيدا.
2 commentaires:
"La culture du non est aussi un apprentissage." أليس هذا مدلول خطابك
وأنت تدعو الكافة مع إطلالة عيد جديد إلى ربط واقع الاقبال على "إنجاز ثوري" على شاكلة ما نعيشه تونسيا وعربيا بطلب
المستحيل؟
نعم سي لطفي
ولكنني أحاول أيضا ان أجد موقعي وموقعك في سياق تحوّل الجميع إلى سياسيين يبحثون عن الحلول الوسط الممكنة
Enregistrer un commentaire