فايز علام، رصيف 22، 07.05.2015
تبدأ رواية "الطلياني" للكاتب التونسي شكري المبخوت
من حدثٍ صادم، إذ يقوم "عبد الناصر" في يوم دفن والده بشتم وضرب الإمام
"علالة" الذي كان في الحفرة يهمّ بدفن المرحوم، "دخل عبد الناصر في
حالة هيجان صارخاً يرمي الإمام الشيخ علالة بأقذع النعوت التي لا تليق إلا بأسافل القوم.
لم يكفه ذلك، ارتمى عليه يريد إشباعه لكماً وربما نوى خنقه لولا أنني انتزعته منه ثم
أخذته مع بعض الأصدقاء بعيداً وهو سادر في صياحه وسبابه وتهديده".
وكي يفسّر هذا الموقف غير المفهوم، يبدأ الراوي، وهو صديق
"عبد الناصر"، بسرد الحكاية من أولها، وما بين الحدث وتفسيره في نهاية الرواية،
تمر الصفحات مختزلةً تاريخ تونس في مرحلة تاريخية مهمة، هي المرحلة التي تمتد بين حكم
"بورقيبة" وانقلاب "زين العابدين بن علي" عليه ثم توليه الحكم
بعد ذلك.
و"عبد الناصر" الذي تتمحور حوله الرواية، جميل الشكل
والملامح، ذو عينين أخاذتين، وهذا ما دفع أهل الحيّ الذي يسكن فيه إلى تلقيبه بالطلياني،
ذاهبين إلى أن أمه أثناء حملها به "توحمت على إحدى الشخصيات في قناة "الراي
أونو" الإيطالية". و"الطلياني" ينحدر من عائلة برجوازية، لكنه
مع ذلك ينخرط أثناء دراسته الجامعية في أحد الأحزاب اليسارية، فيخالط أبناء الفلاحين
والطبقات الكادحة، ويترأس إحدى قوائم الحزب الشيوعي.
يدخل الكاتب إلى عالم الجامعة التونسية، سارداً نشاط الطلبة
السياسي وتنظيماتهم، والأفكار التي كانت سائدة في تلك الفترة، وما ينجم عنها من مواجهات
مع المؤسسات الأمنية، لينتقل منها إلى رصد الحياة في المجتمع التونسي في تلك الفترة
الملتهبة من حكم "بورقيبة".
نقطة التحوّل الأولى في مسيرة "الطلياني" ستكون حين
يُطلب منه تصفية "زينة" بسبب انتقاداتها اللاذعة للحزب الشيوعي وتأثر الكثير
من الطلاب بها، لكنه يعجب بالفتاة القروية التي تدرس الفلسفة، ويعجب بشخصيتها القوية
المستقلة، وفكرها النقدي، فيرفض قتلها، ويتخذ مسؤولية حمايتها على عاتقه، ثم يتزوج
بها سراً.
ولـ"زينة" حكايتها المؤلمة، التي تختزل حكاية الكبت
الجنسي، ومآلاته في المجتمع الشرقي، فهي تعرضت للاغتصاب في طفولتها من قبل أخيها أو
أبيها. كانت تنام في الغرفة نفسها حيث ينامان، وفي إحدى الليالي أحست "بسكين من
لحم يخترقها، ويد على فمها تكتم أنفاسها، تمنعها من الصراخ، والأخرى تلصق رأسها بالحائط
حتى تشلّ حركتها. فهمت أن أمراً معيباً يحدث. ولكن من وراءه؟ من صاحب السكين؟ أبوها؟
أخوها؟ شخصٌ آخر. لكن الرائحة تعرفها، رائحة السنابل والتراب".
يلقي الكاتب الضوء على وضع الصحافة في الأنظمة الاستبدادية،
ومدى الرقابة التي تمارس عليها، وكيف أن الصحف تتحول إلى أداة بيد السلطة لتلميع صورة
الحاكم، إذ يلجأ "عبد الناصر" إلى العمل في إحدى الصحف المحلية لتدبير نفقات
العيش، وسرعان ما يثبت كفاءته، فيصبح أهم صحفي فيها، متخلياً عن المبادئ التي طالما
آمن بها، ويترافق تحوّله ذاك مع تحوّل آخر في علاقته مع "زينة" فيبدأ في
خيانتها مع صديقتها، لينتهي الأمر بطلاقهما.
يؤرخ الكاتب للانقلاب الذي قاده "بن علي"، وتوليه
السلطة، وكيف أنه أحكم قبضته على المجتمع، محوّلاً أحلام الكثير من الشباب بالعدالة
والحرية إلى انكسارات وهزائم، هكذا بدأت مرحلة جديدة من سيرة تحولات "الطلياني"،
الذي أخذ يغرق في الجنس والسهر والشراب، وفي حياة بوهيمية، ما هي إلا صورة عن العالم
"المتعفن المليء بالخيانات والبذاءات والأطماع والحقارات والسفالات" الذي
أصبحت عليه تونس بسبب الديكتاتوريات المتعاقبة.
برغم فوزها بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) هذا
العام، تتضمن الرواية بعض نقاط الضعف. أولاً المباشرة الفجة في سرد الأحداث التاريخية،
والغرق في التوثيق. ثانياً، الانقلابات العميقة في مواقف بطليها "الطلياني"
و"زينة" وتحوّلهما من شخصين حرّين مستقلين صلبين مناضلين إلى شخصين يميلان
مع الريح كيفما مالت، يحتاج إلى مبررات أكبر وأعمق من تلك التي أوردها الكاتب، أو على
الأقل إلى غوصٍ أكبر في دواخلهما. ثالثاً، الأخطاء السردية، ومنها اختيار الراوي، فمن
يسرد الحكاية هو أحد شخوصها، ولكنه مع ذلك على اطلاع مباشر بأدق تفاصيل كل الشخصيات.
ورغم أن الكاتب أورد على لسان راويه في مرات كثيرة مسوغات لتبرير قيامه بدور الراوي،
فإن هناك جزءاً كبيراً من التفاصيل لا يمكن تبرير معرفتها من قبل طرف لم يكن موجوداً
فيها
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire