"الحداثة
والقرآن" لسعيد ناشيد
نشر في "العربي الجديد" بتاريخ 11 أكثوبر 2015
صدم الإخراج المشهديّ للعنف في أشدّ تجلّياته وحشيّة، مع
الدواعش وأضرابهم، كثيرا من المسلمين وهم يتساءلون عن مصدر هذا المنسوب العالي من
الإجرام. ولكنّ ردّ الفعل الأوّل والمتكرّر أنّ الإسلام براء من هؤلاء وأفعالهم
بما يعني إخراجهم من الملّة ومواجهة تكفيرهم للمجتمع والأنظمة الحاكمة بآليّة
التكفير نفسها في ضرب من التطهّر الثقافيّ من آثامهم وفضائحهم. بيد أنّ النظر
الرصين خارج منطق الاندهاش والصدمة يطرح أسئلة أكثر جذريّة حول ما يجري من كراهية
وحقد وعنف وترهيب قد تدكّ طمأنينة ثقافة مهزومة حضاريّا ومجتمعات غارقة في وحل ما
قبل الدولة الحديثة من طائفيّة وعشائريّة وروح ثأر.
وفي هذا السياق يحمل كتاب المغربيّ سعيد ناشيد
"الحداثة والقرآن" (دار التنوير، 2015) جملة من الأسئلة الحارقة عن
العوامل الذاتيّة في ما يحدث بعيدا عن نظريّة المؤامرة الخارجيّة (حتّى إن وجدت!)
وخارج خطاب تبرير الموروث وتبرئته.
فالكتاب يراجع العلاقة بين الإيمان بمسلّماته والحداثة بأزماتها من خلال نقد
التيارات التي توظّف الدين في الصراع على السلطة. فهذه تيّارات تمثّل عند المؤلّف
أصل الفتن في "دار الإسلام" من موقعة الجمل والفتنة الكبرى إلى داعش والنصرة
وبوكو حرام. وهو إلى ذلك يضع التحديث السياسيّ ونتائج الثورات العلميّة والمنظومة
الحقوقيّة الدوليّة أفقا لأيّ اجتهاد دينيّ جدّيّ اليوم.
الأساطير المؤسّسة للأصوليّة والسلفيّة
يمثّل تفكيك الأساطير المؤسّسة للأصوليّة والسلفيّة مدخلا للتنوير
في السياق الإسلاميّ. وهذه الأساطير نتاج تطوّر تاريخيّ قام أوّل الأمر على
استنطاق النصّ القرآنيّ لاستخراج الأحكام ثم تحويل السنّة إلى مصدر للتشريع مع
التسليم بأنّ في القرآن الكريم بضمنيّاته حلولا للنوازل جميعا. والمفارقة أنّ هذا
الجهد التأويليّ البشريّ الذي امتدّ على قرون طويلة صاغ الفقه وأسّس لمفهوم
الشريعة. والشريعة عند المؤلّف ليست كلام الله ولا كلام الرسول بل هي كلام الفقهاء
فتعالى ما هو بشريّ عن شروطه التاريخيّة ليتحكّم في أيّ فهم للقرآن وتنشأ الأساطير
التي عمل المؤلّف على تفكيكها.
ويستند ناشيد إلى ما أسماه جورج طرابيشي بالانقلاب السنّيّ
الأصحاحيّ، ويقصد به تحويل منزلة الرسول بأقواله وأفعاله إلى مرتبة تجاوز أحيانا
الذات الإلهيّة، والانقلاب القرآنيّ المصحفيّ وهو يسوّي بين الوحي والمصحف
العثمانيّ.
فثمّة تمييز ضروريّ لدى المؤلّف، كما لدى غيره ممّن تأثر
بهم مثل عبد الكريم شروس ومحمّد مجتهد الشبستري بين كلام الله (الوحي) وما نزّل
على قلب النبيّ (القرآن المحمّدي) والمصحف العثمانيّ (بما هو ثمرة الانتقال من
المشافهة إلى الكتابة). وكلّ علاقة بين هذه المستويات الثلاثة إنّما هي علاقة تأويل
ينفي التطابق. وتمرّ علاقة المؤمنين بالوحي بالضرورة عبر المصحف بما يجعل العودة
إلى اللحظة الأولى مستحيلة استحالة عودة ماء المطر إلى الغيمة.
والمعضلة أنّ هذه المدوّنة المرجعيّة قد صيغت في مجتمع لم يشهد
الدولة ولا القوانين وكانت معرفته عفويّة بلا مناهج تقيّدها وبلغة لم تصنع لها
القواعد النحويّة بعد. وعلاوة على ذلك كان مجتمع التدوين يعيش وفق منظومة قيميّة
أساسها الطاعة والولاء والعار والعورة والتنجيم... إلخ.
ومقابل هذا يرى ناشيد أنّ الإيمان الدينيّ "خبرة
روحيّة مفتوحة على سموّ الشخص وتسامي النفس وسعة الخيال" (ص 25) وهو ما
يوفّره القرآن بإيقاعه وجماليّته من ناحية وبوقعه التعبّدي الابتهالي من ناحية
أخرى. وبالتقاء البعدين الجماليّ والابتهاليّ يتجسّد الروح الإلهيّ.
العقيدة والشريعة
إنّ المطلوب من تفكيك الأساطير المؤسّسة للرؤية الأصوليّة
والسلفيّة إلى الدين هو تحرير الخطاب الإسلاميّ من نسيج مفاهيم العالم القديم
وإرجاع الدين إلى العقيدة بعد أن هيمنت عليه عبر التاريخ الشريعة.
فالشريعة عنده نظام من الأحكام "البدويّة
البدائيّة" بما فيها من حدود وقصاص وجلد ورجم وفيء وردّة وجزية وأهل ذمّة
وبيعة وطاعة...إلخ. فهي أحكام تعود إلى
مرحلة ما قبل الدولة عامّة ودولة القانون خاصّة. فلمّا كانت الشريعة ثمرة اشتغال
الفقهاء على المصحف لاستنباط الأحكام فهي عنده ليست من الإسلام. ومن نتائج ذلك أن
غلبت الشريعة بأحكامها المتسلّطة على جانب العقيدة القائمة على التوحيد وتحرير
الإنسان. وما السلفيّة عند المؤلّف إلاّ "ديانة بدائيّة أساسها عبادة
الأسلاف" تقدّس النصّ في جوانبه التي ترتبط بعالم ما قبل الدولة والعلم وحقوق
الإنسان فتبرز أزمتها مع قيم الحداثة وتطوّر الذهنيّات.
أمّا ما يدعو إليه ناشيد من ردّ الاعتبار إلى العقيدة فيعود
إلى أنّ الإنسانيّة بحاجة إلى الله لأسباب وجوديّة ونفسيّة كأسئلة الموت والحياة
وقلق العدم ولامعقوليّة الطبيعة والكون وشاعريّة الحياة. غير أنّ شرط قولها
تاريخيّا ارتبط بدرجة المعرفة والأخلاق والذوق القديم لدى المخاطَبين الأوائل على
نحو يلبّي حاجاتهم القيميّة والمعرفيّة القائمة على التسليم والخضوع والطاعة
والعبوديّة. ولكنّ حاجات المسلم المعاصر النفسيّة والأخلاقيّة أضحت اليوم مختلفة
بحكم انخراطه الفعليّ في الحداثة. وهو ما يعني ضرورة صياغة علم كلام جديد في
العقيدة لتحرير صورة الله من التصوّرات التراثيّة القديمة وبناء مفهوم التوحيد دون
تقديس ما يسمّيه ناشيد "نصوص الموتى". فالتصوّر التراثي للألوهيّة مع
الشريعة البدويّة يستحيلان عُصابا وسواسيّا يولّد العنف الهمجيّ.
ومقابل هذا يعتقد المؤلّف أنّ التخلّص من التأويلات التي
نسجت حول "إسلام النصّ" والتخلّي عن عبادة الأسلاف يمكّنان المسلم
المعاصر من الرجوع إلى وظيفة الدين الأساسيّة وهي ترسيخ التوحيد في وجدان الناس
وتنزيه الذات الإلهيّة مع تنزيلها في السياق الراهن بمفاهيمه وقيمه السياسيّة
والحقوقيّة الجديدة من حرّيات فرديّة ومواطنة وتعدّدية وديمقراطيّة وفصل بين
السلطات واحتكام إلى صناديق الاقتراع ومساواة بين الرجال والنساء... إلخ .
آيات القتال وأخلاق القرآن
ولتوضيح جانب من تصوّر المؤلّف نقدّم بعض المعطيات الواردة
في "الحداثة والقرآن" حول آيات القتال. فعلى الرغم من أنّ آيات عديدة
تنصّ على القتال فإنّ ناشيد لا يعتبرها أوامر عسكريّة صادرة عن الله بحيث ترتفع
إلى مصاف العقيدة. فقد نزلت هذه الآيات في مجتمعات تقوم على الإغارة باعتبارها
نشاطا اقتصاديّا يتجسّم في الغنيمة والفيء والسبي عرفته عرب الجزيرة كما عرفته
المجتمعات التقليديّة. وهو إلى ذلك نمط إنتاج ثقافيّ يستند إلى قيم البطولة والثأر
والانتقام والحماية وحتّى فنّ الرثاء. وعلى هذا يكون القتال أمرا
"طبيعيّا" في السياق التواصليّ الذي نزلت فيه الآيات خصوصا مع غياب دولة
الحقّ والقانون. وما كان للرسول أن يخاطب قومه، وهو يتأوّل إشارات الوحي الربانيّ،
بغير هذه الآيات وقد صاغ قوله على مقتضى أساليب العرب ونظرتهم إلى الوجود والحياة.
بيد أنّ الإشكال يكمن في توظيف هذه الآيات اليوم في خطاب
العنف والكراهية والتحريض على القتل مع الاستناد إلى مفاهيم الولاء والبراء
لممارسة أبشع أشكال العنف ضدّ المخالفين و"الكفّار". فهذا المنطق
الحربيّ يمثّل عائقا أمام بناء مجتمع الحوار والعيش المشترك والتوافق. وعلاوة على
ذلك، حوّلت هذه النظرة الدين إلى عقيدة قتاليّة متناسية الموقف الأخلاقيّ القرآنيّ
الذي عبّر عنه على لسان هابيل:"لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي
إليك لأقتلك" (المائدة، الآية 28) بقدر ما تناست آيات عديدة مدارها على الصفح
والعفو والغفران بعد أن أصبح كلّ من هبّ ودبّ يستقوي بغريزة الموت وشهوة الدم في
انتحار جماعيّ مدمّر.
في الإيمان ومقتضات الحداثة
ليس من العسير أن نلاحظ انتشار الخطاب الدينيّ القائم على
التحريض الطائفيّ وإثارة الدهماء على النساء والجهلة على المثقّفين واستخدام ذلك
في تدمير الدول وإفساد الثورات. ولئن بدا هذا السلوك "مفهوما" ضمن منطق
"عبادة الأسلاف" فإنّ أسئلة جذريّة ألقاها ناشيد لا يجيب عنها حتّى ما
يسمّى بالإسلام الوسطيّ. من ذلك مسألة الدولة أتكون مدنيّة أم دينيّة؟ وهل ينبغي
الاحتكام إلى القوانين أم إلى الشريعة؟ وهل القرآن هو الدستور؟ وهل يتساوى المرأة
والرجل في كلّ شيء؟ وهل قتال غير المسلم فرض أم لا؟ وهل تزويج القاصرات من
الإسلام؟ وهل تقبل الحدود التي تعتبرها المواثيق الدوليّة مهينة للكرامة البشريّة؟
إنّ هذه الأسئلة وغيرها كثير لممّا يعتبر كاشفا عن عمق
تغلغل تصوّرات الشريعة في الخطاب الدينيّ بألوانه المختلفة. وهو يكشف أيضا ما
طرحته الحداثة السياسيّة والحقوقيّة من عسير الأسئلة على المسلمين اليوم. فممّا
يقوم عليه فكر الحداثة أنّ الإنسان سيّد نفسه يصنع كيانه ويرسم طريقه الشخصيّ بحسب
طموحه وميوله ضمن تعاقد قانونيّ مع نظرائه في المجتمع يجعل الفرد في شراكة مع
الجماعة لا في علاقة إذعان وخضوع.
فهذا الذي غيّرت به الحداثة وضع الإنسان وإمكاناته في
الحياة إنّما هو الحرّيّة في أعمق مداليلها. لذلك فإنّ تجديد الإيمان عند ناشيد
يفترض الانطلاق من مبدإ الحرّيّة لتنمية الفرد روحيّا واجتماعيّا وإشباع حاجته إلى
الأمن الوجوديّ وملاءمة إيمانه مع منظومة حقوق الإنسان.
لقد آن الأوان حسب
المؤلّف لنقل مركز الثقل من الشريعة إلى العقيدة لأنّ شريعة الفقهاء ستتراجع أمام
زحف الحداثة. وهنا تحديدا بهذا الإقرار المتفائل يعود السؤال المركزيّ المطروح في
الكتاب. فإذا سلّمنا بتاريخيّة الشريعة وخلّصنا على مذهب القرآنيّين الدين منها
وفصلنا بين الروحيّ العقديّ الشخصيّ والزمني السياسيّ الجماعيّ فهل تحلّ مشكلة
العنف؟ وهل يتقلّص منسوبه بالضرورة؟ أليس العنف الذي تمارسه جماعات الإسلام
الأصوليّ السلفيّ التكفيريّ حتّى بنواته التأويليّة المتخلّفة عن فهم مقتضيات
الحداثة يتمّ، ويا للمفارقة، بالآلات الفتّاكة التي صنعتها الحداثة التكنولوجيّة
ضمن لعبة أكبر من صراع التآويل؟
ربّما كنّا نشهد على نحو كاريكاتوري- تراجيديّ نسخة ممّا
يمكن أن يصل إليه الفقر التأويليّ السطحيّ للدين من غباء وتدمير للذات. ولكنّ هذا
المشهد لا يخرج عن ريح الحداثة العاتية التي تكنس أوهام القديم المتهافت بإيصاله
إلى جوهر تناقضاته نفسها.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire