خيري دومة أستاذ النقد الأدبي – جامعة القاهرة
جريدة القاهرة، الثلاثاء 12 مايو 2015
“الطلياني” عنوان مثير لرواية شكري المبخوت التي فازت بجائزة
البوكر العربية لعام 2015. وقد عرفنا المبخوت استاذًا جامعيًا يقدم دراسة مرهفة لكتاب
“الأيام” سيرة طه حسين الشهيرة، ويقدم غيرها من الدراسات في اللغة والأدب، لكن هذه
هي المرة الأولى التي يكتب فيها “رواية”، ومن حسن بخته وبختنا أن فازت الرواية الفريدة
بالجائزة اللامعة.
و”الطلياني” عنوان بالغ الدلالة على إيجابيات هذه الرواية وسلبياتها
في الوقت نفسه؛ فهو من ناحية عنوان مثير يشي بجانب غامض من شخصية البطل في الرواية:
عبد الناصر الملقب بـ”الطلياني”، الشاب التونسي الوسيم ذي الملامح الهجينة بين التركي
والإيطالي، لكنه أيضًا عنوان لا أثر له ملحوظ في بناء الرواية وشخوصها، كأنه اسم عارض
اختير لأدنى ملابسة.
ما أقصده أن هذا العنوان يشير في جانب منه، إلى توجه خاص في
سرد حكاية البطل الغامض الذي نراه مع مطلع الرواية؛ إذ نلتقي في الفصل الأول بالشاب
التونسي عبد الناصر الطلياني – في مشهد دفن والده، وفي سلوك مفاجئ- يضرب إمام المسجد
المحترم الذي يقوم بالدفن، ويُسيل دمه على ملابسه وعلى أرض القبر، وسط استغراب المحيطين
ودهشتهم.
غير أن هذا العنوان الجميل، وعلى الجانب الآخر، يشي بمنطق الصدفة
المجانية الذي يربط بداية الرواية المثيرة هذه، بنهايتها المحبِطة؛ فنحن القراء – وبعد
رحلة طويلة تستغرق معظم صفحات الرواية، وتستعرض شخصية عبد الناصر الطلياني وجهاداته
اليسارية ومغامراته العاطفية والجنسية والسياسية، في مجتمع تونسي تضربه تناقضات السياسة
– نعود مرة أخرى إلى حادثة البداية/النهاية المثيرة، لنكتشف نهاية البطل الغريبة المثيرة
التي بدأنا منها، إنما يحكمها حادث جنسي وقع له في طفولته، كما أننا – وبعد رحلة أخرى
طويلة نسيرها مع حبيبته زينة، وهي واحدة من أجمل شخصيات الرواية؛ إذ تكشف وجوهها المتعددة
عن تناقضات بطلة روائية بامتياز – نكتشف في مصادفة أخرى غريبة أن مصيرها الروائي معلق
أيضًا بحادث جنسي غريب وقع في صباها الباكر. هذا البعد النفسي المركب الذي تبدأ به
الرواية وتنتهي إليه، يبدو مقحمًا على عالمها السياسي التاريخي التوثيقي أحيانًا، وهو
الجانب الذي كُتب له أن يحظى باهتمام قراء هذه الرواية ونقادها.
لقد بدأت الرواية من مطلع مثير، يكتبه روائي ماهر، يرسم شخصيات
غامضة كالتي نراها في حياتنا، ويخفي عنا ما يعرفه الراوي، ويتركنا محيرين في تفسير
سلوك الشخصيات المفاجئ. غير أن هذا اللعب الرهيف بإخفاء المعلومات وإعلانها، سرعان
ما يواريه سردٌ تلخيصي سريع، يصور وقائع التاريخ التونسي مجسدًا في سلوك أبطال الرواية
وشخصياتها، وفي تعليقات الراوي. تنقطع هذه الأحداث والوقائع السياسية والاجتماعية فجأة،
ليعود المؤلف في الجزء الأخير المعنون “رأس الدرب” محاولاً تفسير البداية المشوقة،
ولكن بعد أن نكون قد فقدنا الإحساس بالغموض المنتج الذي بدأت به الرواية؛ فتمامًا كما
قدمت زينة اعترافها الجنسي بين يدي البطل، يقدم البطل في هذا الجزء الأخير، ما يشبه
الاعتراف بين يدي الراوي عما حدث له في طفولته.
عالم هذه الرواية مليء بالمتناقضين والمجروحين في تاريخهم الشخصي،
الجنسي خصوصًا (عبد الناصر، وزينة، ونجلاء، وريم، والأستاذ المشرف، وعلالة وزوجها..
إلخ) كأنه فيروس يصيب الجميع مرة في طفولتهم، ويبقى معهم ليدمر ما تبقى من حياتهم،
خصوصًا البطل عبد الناصر الطلياني وحبيبته البطلة زينة. فلكل منهما تاريخه الشخصي المكتوم
الغامض، كلاهما تعرض للاغتصاب الذي أصابه في مقتل، ومع أنهما يخوضان نضالاً سياسيًا
وغراميا طويلاً، في موازاة تاريخ تونس خلال سنوات الثمانينات والتسعينيات، فإن مقتلهما
الحقيقي الذي تكشف عنه النهاية الغريبة للرواية، لم يكن في السياسة ولا في التناقض
السياسي، وإنما في هذا التاريخ الشخصي المجروح المتناقض، الذي يبدو – وهنا مشكلة هذه
الرواية ونقطة ضعفها الأساسية – قدرًا مفروضًا من خارج الرواية ومنفصلاً عن عالمها
الداخلي. التحرش المتكرر الذي تعرض له البطل من قبل إمام المسجد، والاغتصاب الذي تعرضت
له البطلة من قبل مجهول، حادثان مع ما لهما من تأثير فادح، يبدوان صدفة قدرية منفصلة
عن عالم الرواية الحي، الممتلئ بالصراعات السياسية والاجتماعية. ويا له من لقاء لبطلين
مجروحين ينتميان معًا إلى اليسار!!
تذكرني رواية “الطلياني” للمبخوت، برواية “البيضاء” ليوسف إدريس،
وإن بشكل معكوس؛ فالروايتان كلتاهما تقومان على قصتين بينهما قدر من الانفصال وقدر
من التداخل: قصة الحب وتكوُّن الشخصية من جهة، وقصة السياسة وتكوُّن الوطن والثورة
من جهة أخرى. في الروايتين جانبٌ نفسي شخصي
خاص، وجانب وطني سياسي عام.
في البيضاء كان الجانب الأكبر– الذي أهمله النقاد والدارسون
– استبطانًا مطولاً يركز على ما يدور بين البطل ونفسه في قصة حبه المستحيلة الغريبة
مع “سانتي” حبيبته اليونانية، بينما كان الجانب الأصغر – الذي اهتم به النقاد والدارسون
– متعلقًا بتناقضات الحركة الشيوعية المصرية وبذلك الجانب من تاريخ مصر الأربعينيات.
أما في الطلياني فكان الجانب الأكبر من الرواية الذي انشغل به
النقاد والدارسون – مركزًا على التاريخ الوطني والصراعات السياسية والفساد والنضال
في تونس بورقيبة وبن علي في الثمانينيات والتسعينيات، بينما لعبت أحداث عارضة – ربما
لن يلتفت إليها النقاد والقراء – الدور الأساس في صياغة حياة البطل والبطلة وفي توجيه
حركة الرواية. رواية “الطلياني” إذن – كروايات أخرى كثيرة – تنازعَها أكثر من هدف،
وضربت في أكثر من اتجاه. وهذا سر قوتها وسر ضعفها.
أغرب شخصية في هذه الرواية، وأعتقد أنه يستحق دراسة مستقلة،
هي شخصية الراوي المتكلم الذي لا يستطيع أحد أن يتبين دوافعه، بينما يريد المؤلف أن
يقنعنا بأنه يجمع الوقائع، ويروي شهادته على صديقيه بطلي الرواية، وعلى مجتمعه التونسي
في عمومه. الرواية كلها في واقع الأمر، تصلنا
عبر راو غائب واسع المعرفة يصير وجوده مع الوقت طبيعيًّا وتلقائيًّا، بينما
يبدو الراوي المتكلم الذي يطل برأسه بين حين وآخر، مقحمًا وغريبًا عن عالم الرواية.
بقيت كلمة أخيرة عن اللغة التي كتبت بها رواية المبخوت. وهي
لغة برغم فصاحتها الزائدة عن حد الرواية أحيانًا، لم تمنع من رسم مشاهد يومية ودرامية
حية لا يمكن نسيانها، كمشهد الالتحام بين الشرطة والمتظاهرين، ومشهد اغتصاب زينة المجهول
الغامض.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire