كيف يكون قصدك نبيلا و جهدك المبذول كبيرا و لا تقبض في خاتمة المطاف إلا حفنة من الريح و دمار الأعصاب ؟كيف يمكنك، و أنت الماسك على جمرة القانون ، أن تهدر المال العام و لا تحاسب؟
في إحدى مؤسّسات التعليم العالي وضع مشروع لدعم الجودة و تحسين المردود البيداغوجي و العلمي بتمويل من البنك الدولي .
اجتمع الأساتذة الأجلاّء كلهم حماس ليصوغوا، تطوّعا و دون أية مكافأة مادية ، برنامج عمل و ليملؤوا حزمة من الوثائق و الأوراق متبعين سلسلة من الإجراءات الدقيقة تهدف كلها إلى الإقناع بفائدة مشروع الجودة أمام لجنة من الخبراء الكبار الذين يفهمون كل شيء و يعرفون الدقائق و الرقائق. تهدف هذه الإجراءات المعقّدة التي تتطلب خبراء في التصرف الرشيد غير موجودين في مؤسسات التعليم العالي إلى حماية المال العام و ترشيد صرفه و التثبت من أنه استعمل على الوجه المطلوب.
و الحجة دائما حاضرة : مال الشعب يجب أن يحمي و القرض عبء على المجموعة الوطنية التي تضحي بالغالي و النفيس و هدفنا أن نحسّن ترتيب جامعتنا العالمي .
الملف جاهز تتكفّل به بيروقراطية الجامعة بالتّنسيق مع بيروقراطية سلطة الإشراف.تأتي الموافقة أخيرًا بعد تعديلات وتنقيحات وتبديل في صياغة هذه الفقرة أو تلك وفي أسلوب عرض هذا الجانب أو ذاك.
يدعى المزوّدون إلى تقديم عروضهم بعد جهد في إعداد الإعلان للنشر في الصحف وصياغة كراس الشروط حسب متطلبات البنك الدولي في المنافسة النزيهة "و المناقصة " الشفافة ".
يتقدم المزودون .تتفاوض معهم نخبة من الأساتذة المختصين العارفين بالمواصفات الفنية المطلوبة .يتم تعديل العرض المالي لأن الأموال المرصودة للمشروع أقل من السعر الذي اقترحه المزود .يتمسّك كل طرف برأيه .يبحثون عن تمويلات إضافية .لا يجدون موارد أخرى يتفاوضون مع مزود آخر .يخفّضون من سقف مطالبهم. يعيدون ، بالتنسيق مع غيرهم ممّن لا أذكر، يتركون مكاتبهم ويوقفون أعمالهم ليجتمعوا مدّة ساعات وساعات ينعمون النّظر في الملف، يقرؤونه فقرة فقرة وسطرا سطرا وكلمة كلمة. بعد مارطون النّقاش الجدّي المفعم بحب الوطن والإخلاص للمال العام يقررون إرجاع الملف إلى مصلحة كذا وكذا لتعيد صياغته والأسباب خطيرة حقّا : كلمة كذا لا توافق المقصود والفاصل الموجود بالسطر العاشر من الصّفحة الأخيرة ينبغي أن يستبدل بنقطة والوثيقة التي تبين حسن نيّة المزود، غير ممضاة من العمدة ولا يكفي ختم رئيس البلديّة...إلخ...إلخ.... .
وتتواصل هذه الصّرامة التي يتعامل بها مع مثل هذه الملفات الخطيرة المستقبلية التي ستجعل مؤسساتنا وجامعاتنا في منزلة مرموقة عالميا وستجعل بلادنا في مصاف الدول الكبرى في مجال البحث العلمي المجدّد وستجعل باحثينا يقتحمون سوق اقتصاد المعرفة بفضل رأس مال الذكاء التونسي الذي يتوقف عليه مصير الإنسانية إلى آخر التّرهات والأكاذيب عن النّفس والنّرجسية الخانقة .
وقد فاتني أن أوضّح لكم أن موضوع هذه الصّفقة العظيمة هو بضعة حواسيب وبضعة ناسخات رقميّة و بضعة تطبيقات إعلاميّة للأرشفة الرّقمية . ومقدار الصّفقة المذكورة لا يتجاوز الثّمانين ألف دينار أي سعر سيّارة من طراز يعتبر بمعاييرنا التّونسية فارهة .
وفاتني أيضا أن أقول لكم إن هذه الصّفقة التي ستغير وجه العالم في عالمنا الرّاهن تراوح مكانها تقريبا منذ سنتين .
وفاتني أخيرا أن أقول لكم إنّ التّجهيزات المذكورة إجمالا أصبحت بحكم تسارع التّجديد التّكنولوجي في قطاع الإعلامية وتوابعه ، متقادمة غير مُوفية بالغرض ولا يمكن تغيير المواصفات الفنّية لأن القانون ، وما أدراك ما القانون ، يمنع ذلك حمايةً للمال العام ومقاومةً للرّشوة والفساد والتّعامل تحت الطّاولة .
يمرّ المشروع إلى لجنة الصفقات يترك رئيس الجامعة و بعض رؤساء المصالح و المشرفون على المشروع في وزارة التعليم العالي و ممثلون عن أمانة المال و تفقدية الشغل و السيد مراقب المصاريف مكاتبهم وأشغالهم العاديّة.
والحاصل أنّ المطلوب هو احتساب ساعات العمل تفكيرا وتصوّرا وصياغة ومتابعة إدارية واجتماعات ومجهودات مختلف المتدخلين الجامعيين والإداريين والوزارات المختلفة وسنجد حينها أنّنا صرفنا أكثر من قيمة الصّفقة التيّ لم تعقد إلى حدّ كتابة هذه الأسطر .
هذا أنموذج بسيط جدا و عليه يكون القياس عما يجب أن يعالج ببلادنا إذا أراد التونسيون أن يخرجوا من الثرثرة البلاغية الثورية ليفككوا منظومة الفساد الخفّي الذي ينخر جسد الدولة و البلاد و يحبط الكفاءات التونسية في إدارتنا و مراكز القرار فيها .
فمن يسرق أموال الشّعب بطريقة قانونية بل بفضل تطبيق القانون ؟ من وضع هذه القوانين باسم حماية المال العام ويحرص على تطبيقها حرفياّ لإهدار المال العام ؟ من يعطّل تقدّم الجامعة التّونسية وأداءها لمهامها في التّجديد البيداغوجي والعلمي ؟ من تسبّب في اقتراض المال من البنك الدّولي لصرفه في تجهيزات بسيطة لا تحتاج إلى التّداين الخارجي ؟
سلوا سلطة الإشراف العارفة بكل شيء فتتدخل في كل شيء وهي أعجز ما تكون عن أن تساعد المؤسسات الجامعية على الوصول إلى مستوى الجودة المطلوبة حتّى بتكاثف الجهود كما يقال في اللغة المتخشبة.
سلوا الوزارة الأولى ووزارة الماليّة حتّى تقدّم لنا الحلول المبدعة العظيمة من أجل مصلحة أبنائنا الطلبة، فلذات أكبادنا التي احترقت بنار البيروقراطية و انتعشت بشعارات حماية الأموال العمومية .
فما لا يعرفه عامة الناس هو أن لمؤسسات الدولة التونسية المختلفة و الجامعية على الأقل اعتمادات كافية عموما و لكنها لا تستطيع صرفها على نحو مفيد ناجع بسبب هيمنة الوزارة الأولى ووزارة المالية و ترسانة القوانين البائسة التي تقوم على مبدأ أن المسؤولين سرّاق محتملون إلى أن يثبتوا عكس ذلك .
فمن يسرق أموال هذه الدولة : المسؤولون فيها أم القوانين الموضوعة لحماية تلك الأموال؟
2 commentaires:
Bien dit!!
merci de te parler de ce sujet. Incha Allah youssel lelli yefhmouh en premier lieu w yé5dhou el ejra2é&t ellézma (incha allah ma yo3douch 2 ans zeda yé5dhou féha :p )
شكراً كتييييييير ع الموضوع .. :)
Enregistrer un commentaire