mardi 26 février 2013

في الوعي الزائف




1
لا أعرف لم استقرّ رأيي على الاكتفاء بتعريف للإيديولوجيا ، من بين تعريفات كثيرة، على أنّها وعي زائف.ولست أدري إن كان ما وقر في الذهن مفهوما مطابقا للمعرَّف أم هو استعارة أمكنني ترشيحُها كلّما شغّلتُ عبارة " الوعي الزائف".وما الفرق ما دمنا بالاستعارات نحيا كما قال الاخر؟
يتداعى مع العبارة نثارٌ من الكلمات كالوهم والخطإ والإخفاء والكذب والتحريف والتمثلات غير المطابقة للواقع والتجنيح بالخيال بعيدا والاغتراب وما إلى ذلك.فترى صاحب الإيديولوجيا ، وهو سادرٌ في وهمه منافحٌ عنه،كالسائر بين الناس على رأسه، بيننا ومعنا يتحرّك فنراه مقلوبا كصورته المنتقشة على شبكيّة العين.

2
وَلّ وجهك حيث شئت تَرَ إخوة وأصدقاء ورفقة يكابرون ويعاندون معتقدين أنّ قولهم هو الحقّ الحقيقة التي لا يأتيها باطل أو يداخلها شكّ من خلفها أو من بين يديها.ينطقون بالكاذب من الأقوال ، كذبا منطقيّا لا اخلاقيّا،في طمأنينة حمقاء جازمين كأنّهم رسل لا تنطق عن الهوى.
تأمّل حولك تجدْ في عوالم الثقافة والأفكار والآراء ظنّيّات تُخرج مُخرج اليقين.فإذا كذّبتها الوقائع ، والوقائع عنيدة،سدر الزائفون المزيّفون في غيّهم وزادوا تمسّكا بما يرهفون.
ما معنى أن يتكلّم أحدهم ، وهو مستأمن على صياغة الدستور لجيلين على الأقلّ، ليزيّف مسار التاريخ مستهينا بالذكاء البشريّ على محدوديّته فيعتبر كونيّة حقوق الإنسان أمرا خلافيّا؟
قد نعتذر له بحدود ثقافته وضيق أفقه وتوهّمه التضادّ بين الخصوصيّة الثقافيّة وكونيّة الأفكار الكبرى ، قد نعتذر له أخلاقيّا بحسن النيّة وسلامة الطويّة ولكنّنا لسنا مجبرين على مشاركته في صياغة وعي زائف بالتاريخ .
إنّ صاحب الوعي الزائف كتلميذ أحمق غبيّ فهم الذرس فهما خاطئا ورغم ذلك يجادل أستاذه ومرجعيّاته الفلسفيّة والفكريّة بتعلّة أنّ مؤدّب القرية لقّنه عكس ما يقول الأستاذ حين كان يحفظ بعض قصار السور دون أن يفقه تأويلها.
هكذا يصنعون أوهامهم بالأسانيد دون قراءة المتون  ، بالثقة في الرجال وأشباههم وجرحهم وتعديلهم لا بإعمال النظر والاجتهاد والتفقّه في نصّ الواقع ومتن الثقافة .يرون العالم بالمقلوب لأنّ معلّما ما في قرية نائية من قرى الفقر الماديّ والروحيّ رأى دينه بعقل ضعيف من ثقب باب ذهب في وهمه أنّه يفتح على العالم كلّه ما كان منه وما سوف يكون.
تتوالد الأوهام وتتناسل الأخطاء من الأنساق المغلقة التي لا تترك هوامش في الصفحة او حواشي للمتون.صوت واحد يعلو فيها يجادل في همسٍ طواحين أعداء وأفكار لا يزيد جدالُهم إلاّ إصرارا على ارتكاب الأخطاء وتنمية الأوهام والزيف.تكتمل الدائرة ولا منفذَ باديا ليفكّر الفكر في نفسه أو يراجع ويتراجع أو يعدّل وينقّح و يحوّر.تنقلب الدائرة حلقة مفرغة لا تكسرها إلاّ تحوّلات الواقع العاصف فيختبئ في دائرة أضيق إمعانا في الوهم والخطإ.
3
تأمّل ما يقال منذ سنتين.خزعبلات بمفردات متنوّعة وحفل تنكّريّ لأفكار بائسة تستعيد عريق الأوهام وقديم الأكاذيب ببلاغة رثّة متقادمة تستجلب هيبتَها من غموضها والتباسها عاجزة عن أن تستفيد في صياغتها من منجزات علوم الخطاب كي تؤثّر أو تقنع أو تغيّر الواقع تغييرا حقيقيّا.
خطابات منفصلة تماما عن الواقع ، تحمل معها أصداء بعيدة باهتة لا ألق فيها ولا بهجة ولا مرح تريد أن تضع الإيديولوجيا السائدة بزيفها الموروث على محكّ إيديولوجيّات أشدَّ غربة وتغريبا للإنسان عن إنسانيّته : وعي زائف يزايد عليه وعي أشدّ زيفا والناس في رعبهم يرتعدون وفي البحث عن لقمة عيشهم يتخبّطون.
ارحمونا من وعيكم الزائف .خذوا أوهامكم وارحلوا إلى قرى الزيف التي بها تحلمون.دعوا المدن لأهلها الذين تعلّموا الشكّ والنقد في جمهوريّة المعنى يقاومون اغترابهم ويثقّفون حلمهم.
ارحلوا أو اخرجوا من جبّة الشيخ المؤدّب الواهم الحاقد العاجز عن فهم التاريخ لعلّكم تستعيدون الإحساس بإيقاع التاريخ .لقد انتهت صلاحيّة نهر الدموع المكلّل بالورود الذابلة منذ عقود.

mardi 12 février 2013

ما لا يعرفه القتلة...





في الشارع الرئيسيّ نفسه، الشارع الذي مرّت منه سيّارة الإسعاف حاملة الجثمان كانا يسيران. في أماسي الصيف حين يخفت الحرّ يمارسان هواية المشّائين ولكن في الجادة التي تتوسّط شارع الزعيم.
هناك ، لو تشهد ذاكرة الأشجار ، لو تعلّمنا منطق العصافير التي تردّد إلى الآن حديثهما كانت تحلّق أحلام الشابّين بعالم أجمل وأعدل.
كان يصنعان من الكلمات وشواهد الكتب ومزيج الأفكار القديمة والجديدة والأشعار الرائعة جنّة الإنسان على الأرض ، يبحثان في خريطة العالم التي يفكّكانها ويعيدان تركيبها عن المسالك الموصلة ويحدّدان المدن الفاتنة التي لم تظهر بعد.
كان يستنطقان التواريخ والأحداث والوقائع كأنهما عاشاها بمآسيها وأفراحها ، كأنّهما عاصرا أوجاع المقموعين والمضطهدين والثائرين جميعا.يركّبان من نثار المعلومات عن تاريخ الثورات ومآسي البشريّة التي تجرجر وراءها تراثا بذيئا من البربريّة صورا من البطولات الدمويّة والعذابات المتكرّرة.يبنيان بها، وفيها، أملا بعيدا يشحذ فيهما إحساسا أقوى فأقوى بأن الإنسانيّة لم تدخل بعد مدينة المعنى التاريخي العميق الأصيل.كأنّ للتاريخ غائيّةً يسير إليها قُدُما بدونها يتواصل السقوط في أرذل صيغ الاستعباد والاستغلال وإهانة كرامة الإنسان.
كانا يتنقّلان من ثقافة العرب إلى الأفكار الرائعة الآتية من بعيد ، من مدن لم يزوراها أبدا.يشعران صادقيْن بأنّ الإنسان واحد وأن الفكر حديقة متنوّعة خلاّبة وبستان يتيح لهما متعة النظر والتأمّل في عبقريّة الإنسان:الإنسان الحالم التوّاق الخارج عن طوق حدوده ليعانق ما وراء العرش : عرش الخير والجمال والعدل ،بحثا عن مطلق آخر لم يُكتب بعد ، عن القصيدة التي تختزل الجوهريّ ، قصيدة لا تقال بل تعاش ،لا انفصال فيها بين القول والفعل،قصيدة تُنشأ خارج شروط الاغتراب الإنسانيّ وبعيدا عن قيد الضرورة.
كان يحبّان مخطوطات 1948  لماركس الهيغليّ الشابّ.ينقمان على ألتوسير وقراءته الجافّة لأجمل الأحلام باسم العلم وتمييزه عن الإيديولوجيا باعتبارها وعيا زائفا.ويعودان لإنصاف الرجل حين يحلّل أجهزة الدولة الإيديولوجيّة.
كان يختلفان في أمر ستالين ولينين وتروتسكي وماوتسي تونغ  وكاوتسكي وروزا لوكسمبورغ كأنّهما بعض أفراد عائلتيهما.أسماء وأفكار ومواقف تنثال هكذا من الذاكرة.قرآ نصوصَهما أو بعضها وفي أثناء ذلك كانا يطوّران كفاءتهما في الجدال والحجاج واللّجاج .
يتفقان على معاودة القراءة والتدقيق والتحقيق .يقطعان الجدل الذي يحتدّ دون أن يقطع الخلافُ حبلَ الحوار والودّ والإعجاب بالعقل النقديّ الوقّاد .
يستريحان في ظلال ما يجمعهما.يصدح صوت أحد الشكرييْن بما تيسّر من شعر درويش أو أدونيس او ناظم حكمت أو بوشكين أو بودلير او المتنبّي او النواسيّ... وبقيّة العصابة .قد يقرأ أحدهما للآخر قصيدته الجديدة: لو غيّرت هذه الكلمة بتلك لكان أفضل، لو تركت القافية في ذاك السطر لكان أنسب ، لو حذفت هذا المقطع لكان أقوى إيحاء.ولا سبيل لرفض رأي الناقد الحصيف فهما يعرفان أسرار الكتابة ، أو هكذا شبّه لهما، ويثقان في حساسيّتهما الشعريّة المشتركة التي قرّبت بينهما في الفكر والحياة.
ومن أجمل اللّحظات حين يعنّ للفقيد الشهيد أن يستظهر بعض محفوظه من القرآن الكريم.ما يزال يذكر الحديث الممتع عن الآية الكريمة من سورة الكهف :( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) و عن الفرق بينها وبين ما جاء في سورة لقمان : ( ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم) .   عادا إلى التفاسير وظلاّ يستجليان وجوها من التآويل كان أحدهما يحبّ رأي المتصوّفة في تخريجها ويعارضه الآخر برأي العلاّمة صاحب التحرير والتنوير في تلخيصه الفذّ النبيه لأجمل الآراء عن الآيتين.
لم يكونا يريان التضادّ بين الأفكار والسياقات ومقامات الخطابات.كان يتأمّلان خلاصة الذكاء البشريّ وتجسّداته وتشكّلاته المختلفة.يتمتّعان بتنوّع الأقوال وتموّجاتها وبتلك الثروات المتاحة للجميع على مائدة الفكر البشريّ الباذخة الفاخرة.
تعرّفا على بعضهما في الأزمات ،في أثناء ما شهدته بداية ثمانينات القرن الماضي من حركة تلمذيّة.جيل جديد من أبناء مدرسة الجمهوريّة و أبناء الحيرة التي تُغلّف أحيانا بيقينيّات تشبه المطلقات.ولكنّ الرؤية الشعريّة العميقة للكون والشعور الإنسانيّ الفيّاض بواجب العمل على سعادة البشر ورفض القهر والاستعباد لم يمنعا اختلاف السبل بينهما لشجاعة عند هذا او التزام عند ذاك أو بحث لا يتوقّف  أو تردّد في مفترقات طرق  أو طبع شخصيّ يكره التفكير العموميّ أو شكّ يولّد شكّا في اليقين السابق.جيل حيرة لم يفقد حيرته حتّى في أشدّ لحظات اليقين.
كان آخر هاتف من الفقيد إليّ :" عد إلى كتابة الشعر. أعرف أنّك ستقول أجمل قصيدة عن أحلى لحظة شعريّة نعيشها رغم كلّ ما يقع".
ما لم يكن يعرفه الفقيد أنّه رغم افتراق السبل ما زال في ذاكرتي ،كما ظلّ منذ ثلاثين عاما، بيتا جميلا في قصيدتي التونسيّة.
ما لا يعرفه القتلة أنّ شكري صنع مجده بالكلمات التي قرأها وكتبها وقالها خطيبا مصقعا أمّا سلاحهم الحقير فهو لا يحبّر في كتاب الحياة جملة مفيدة فلن تنفد كلمات الحقيقة ولو قتلوا عددا من أشباهه ونظرائه.
رحم اللّه شكري بلعيد لقد كان أعظم من قتلته.
                                                            

mercredi 30 janvier 2013

صناعة الكذب



1
انتشر الخبر في مصر المحروسة بين الجميع.ظهر أوّل الأمر في المواقع الاجتماعيّة ثم تناقلته الصحفُ، جميعُها تقريبا بما في ذلك المنابر الجادّة الرصينة منها.
كان الخبر مغريا في حدّ ذاته: عالم اللّسانيّات الأمريكيّ الأشهر نعوم تشومسكي المعروف بفضحه لألاعيب السياسة الأمريكيّة الخارجيّة ونقده اللاّذع لمخطّطات مركّبات المال والنفط والسلاح في العالم يصرّح في محاضرة له بجامعة كمبريدج أنّ إحدى الدول الخليجيّة تعمل بتنسيق مع الموساد لتخريب بلدان الربيع العربيّ وعلى رأسها مصر تحت حكم الإخوان.
نُشر الخبرُ واستشهد به المحلّلون وقامت ضجّة كبرى.فالمعطيات التي تتوفّر  لتشومسكي والمعلومات التي يقدّمها على قدر عال من الوثوق والمصداقيّة.انساق الجميع في حفل استيهام جماعيّ أحدهم يزيد الدقيق والآخر يصبّ الماء والثالث يعجن والرابع ينضّج كعكة الفضيحة والمؤامرة ليأكل الجميع هنيئا مريئا.
وفي خضمّ الوليمة الباذخة لم يفتح أحد "غوغل"  بحثا عن الجملة التي قالها تشومسكي بالأنجليزيّة القحّة لا بالترجمة العربيّة المزعومة.لم يتجشّم أحد عناء التثبّت في موقع الجامعة المبذول للناس أو التفتيش في اليوتوب مثلا.لم يتوقّف حتّى المرتابون الشكّاكون قبل أن تصبح الإشاعة يقينا.
لم يكن الأمر يتطلّب ذكاء خارقا :افتحْ المواقع التي أخرجت الخبر تجدْها قريبةً من الإخوان ،مدافعة عن حكمهم.تذكّر أنّ الإمارات العربيّة المتّحدة قد ألقت القبض على عدد من المصريّين بتهمة تكوين عصابة تخريبيّة إخوانيّة الهوى والتوجّه تفهم ما وراء الخبر.
2
قبل خطاب تشومسكي المزعوم ظهر الخبر للناس في تونس مخيفا مرعبا :مراهقان في السجن بسبب قبلة.قصّة من نوادر الأخبار بطلها أخ شريف عفيف يصون العرض قدّم شكوى بأخته وقاض ، مفترض، لا يحبّ القبل  يحمي الأخلاق الحميدة ويقف سدّا منيعا يصدّ سيل التجاهر بما ينافي الحياء.
خلطة مغرية في سياق حكم ترويكا بعمود فقريّ ذي مرجعيّة دينيّة وقضاء مشكوك في استقلاليّته وحروب خاطفة لإرجاع التونسيّين إلى طريق الهدى والفضيلة وتنقية البلاد ، بعد ثورة الهوّيّة الخالدة، من شوائب الانحلال والتسيّب الأخلاقيّين وأدران الفسق والفساد.
بدأت المعركة في الفضاء الافتراضيّ صنعتها صفحات مناهضة للنهضة مرعوبة من انتشار قوس قزح غير مألوف من التيّارات الإسلاميّة.وفي الفضاء الافتراضيّ دارت رحى حرب ضروس أوقعت من المبحرين المحترمين الكثيرين، يمينا ويسارا، مناصرين لحزم القضاء ومندّدين بالاعتداء على الحرّيات الشخصيّة.
بان بعد مدّة ، وفي الفايسبوك نفسه، التزييف والتقوّل ولكن لا أحد بإمكانه اليوم أن يجزم أنّ هذا "الفَايْكْ" بلغة المتلاعبين الافتراضيّين بالعقول لم يترك أثرا من خوف في القلوب والنفوس.
لنتذكّر قبل هذا بسنتين تقريبا رسالة منديلا إلى الثوّار في تونس ومصر.خلاصتها بيّنة:عليكم أن تصفحوا عن أزلام النظامين السابقين.فالثوريّ المنتصر حليم غفور شهم أو لا يكون.انطلقوا للبناء وتحقيق أهداف ثورتكم بعيدا عن الأحقاد والضغائن.
كلّ هذا ولا رسالةَ من منديلاّ ولا هم يحزنون.وّإنّما هو خطاب منحول لزعيم مكافح دسّه المستفيدون من النظامين السابقين في تونس أومصر. رسالة أملاها عليهم صوت الرعب داخلهم وأمل ضعيف في النجاة من مشانق أكيدة لكنّها لم تشتغل.
وإنْ هذه إلاّ أمثلة ثلاثة من الإسلاميّين وخصومهم والمرتبطين ببقايا النظام السابق.فاعلون مختلفون والتقنية واحدة ، تقنية "الفايك"  والتزوير والتدليس.المقاصد متنوّعة والمضمون واحد:إيهام وتلفيق وتزييف ودجل ومغالطة وإخراج للباطل مُخرج اليقين.
3
في العالم المشهديّ ، باعتباره خلاصة الاغتراب الإنسانيّ الحديث،لا مكان إلاّ لظلال الصور وأشباحها في المرايا المتجاورة التي تبدّل الوجوه وتقلبها أقنعةَ وخيالاتٍ وصنوفا من الأكاذيب التي تتوالد ولا رقيب.مشهد يتغذّى من الزيف والبهتان وإلاّ فقد أصل وجوده وجوهر كيانه.
في مثل هذا العالم البذيء تعود دلالة النقد في لسان العرب بقوّة: تمييز الدراهم (الحقيقيّة والرمزيّة ) لإخراج المزيّف منها.
يعود الجاحظ ليذكّرنا بضرورة معرفة مواضع الشكّ ومواضع اليقين ويدعونا إلى أن " نتعلّم الشكّ في المشكوك فيه تعلّما" حتّى لاننساق إلى جهل العوامّ وهم " أقلّ شكوكا من الخواصّ(...) فليس عندهم إلاّ الإقدام على التصديق المجرّد أو التكذيب المجرّد".
ولكن ماذا لو كانت أطماع صانعيّ الأوهام في المجتمع المشهديّ تعمل جادّة لتعميم الوهم والإيقاع بالخواصّ أنفسهم في حبائل العوامّ؟  

jeudi 24 janvier 2013

معركة السّلف..معركة الآتي



   1
كلّهم أدانوا ما وقع ، كلّهم تقريبًا. سخط أهالي ضاحية سيدي بوسعيد ،بسطائهم ومثقّفيهم ، تجلّى في مسيرة حاشدة باتّجاه قصر الرّئيس. شعورٌ بالصّدمة والإهانة ممزوج بغضب صارخ واحتجاج قويّ.
كلّهم أدانوا ، في الدّاخل والخارج ، كلّهم تقريبًا من رئيس الجمهوريّة إلى اليونسكو التي سجّلت ، منذ سنة 1979 ، مقام سيدي أبي سعيد الباجي ضمن التّراث العالمي في قرية هي من درر السّياحة في المتوسّط.
لم يكن أوّل مقام من مقامات الأولياء وزواياهم يعتدى عليه أو يحرق فيوصف المعتدون بالبرابرة والوهّابيّين الذين يريدون تغيير نمطِ اجتماعنا البشريّ ونظامِ قيمنا وأخلاقنا. يريدون تنقية إسلام التّونسيّين ممّا يعدّونه شوائبَ ورواسبَ وثنيّةٍ. يبشّروننا ، كما قال الآخر ، بثقافة جديدة لمجتمع جديد سرعان ما تحوّلت ثورته ، بقدرة قادر ، إلى ثورة هويّة.
انتقلت المعركة إلى مجمع الرّموز. معركة يبدأ فيها المنتسبون إلى السّلف الصّالح ، بجميع ألوانهم ، لنقل جلّها، الهجومات التّكتيكيّة الخاطفة على محاور متعدّدة ليجد خصومُهم أنفسَهم يردّون الفعل على أعمال لم تكن مسجّلة أبدًا على أجنداتهم الفكريّة أو السّياسيّة.
إنّها حرب استنزاف حقيقيّة تتّصل بأيقونات الذّاكرة فتذكّرنا جميعًا بأنّ الأقلّيات الفاعلة أخطر على النّاس من الأغلبيّة الصّامتة وأنّ حديث الهويّة ، ما فيه من أوهامٍ  واستيهاماتٍ ، يفتح علينا أبواب جهنّم سنصطلي بنارها جميعًا.
2
أغرب ما في الأمر عندنا أنّ المنتسبين إلى تيّار الحداثة ، والحداثة تفكيك ونقد وتجاوز في ما نعلم ، يتجشّمون عناء الدّفاع ، لأمر مّا ، عن الذّاكرة وينتصبون حماة للمقامات والمزارات ساخطين على الهمّج والمعتدين.
أصبح أبناء الحداثة عندنا يدافعون عمّا يعتبرونه إسلام الوسطيّة والاعتدال والتّسامح ضدّ من يحملون الرّايات السّوداء ويدعوننا إلى بناء دولة الطّهرانية الخالصة والخلافة المعطّلة ومجتمع تعدّد الزّوجات  البالغات منهنّ أو القاصرات.
 ولئن كنّا نتفهّم الحرص على شواهد التّاريخ وآثاره ومعالمه ، ومنها مقام أبي سعيد الباجي فإنّنا لا نرى صلة نسبٍ بين نمط تفكير ذاك الشّيخ العالم الرّاقد في أعلى القرية المعلّقة في السّماء الغارقة في البحر ، وبين نمط  تفكير الحداثيّين.
     لنتذكر أنّ  الزعيم بورقيبة كان من آباء التحديث عندنا،  مهما قالوا و لبّسوا و عملوا على أن ينتقموا منه و من إرثه و أن يلطّخوا صفحات تاريخه بألوان من الحقد و السموم.
      لنتذكر أنّ هذا الزعيم  أيضا كان يتهجّم على الأولياء الصالحين و نكّل برمزيّتهم و قاوم السلطة التي كانت لمزاراتهم و اعتبرهم عنوان تخلف و رجعية و طالب، و هو يربّي شعبه على قيم الحداثة، بأن يقطعوا صلتهم بتلك الترهات والخرافاتن والخزعبلات.
       نعم ، فعل بورقيبة ذلك لأنه كان، هو أيضا ، يريد أن يغيّر نمط المجتمع و نظام قيمه و يبدّل دينه من جمود لم يكن خافياً إلى حركية تربطه بالعصر و نوازله و توجهاته.
   نعم ،لم يستعمل بورقيبة ، للوصول إلى ذلك إلاّ عنفه الرمزي المسنود بسلطة الدولة الناشئة و كريزما الزعيم ذي السلطان على النفوس و القلوب .
         ولكنّ هؤلاء المنتسبين إلى ثقافة الأعراب ، وهم عند الله أشدّ كفرا ، هؤلاء الحالمين بأفق أسود سواد واقعنا البائس الحزين الطالع من ليل الفكر السحيق يعملون بدورهم، مع حفظ الفروق ومن خلال ضرب الذّاكرة ورموزها وأيقوناتها ،على تغيير نمط المجتمع والاعتقاد .
     فكأنّ كلَّ من يحلم ببناء ذاكرة دينية جديدة ومجتمع جديد يبدأ من الحلقة الأضعف فيستعيد نقاوة أصل موهوم أو يُطهّر الرّصيد الرّوحي الحاصل من أدران المدوّنة الفقهية القديمة ،. وهذه الحلقة الأضعف هي أولياء الله الصالحين الذين يمثّلون القراءة الشعبية للدين البسيط المبسّط القريب من أفهام العوامّ المؤثّر في وجدانهم وضميرهم .

 3   
 بعيداً عن المناكفة الدينية ، والمغالطات التاريخية باسم السلف الصالح أو باسم الحداثة المتباكية الخائفة، علينا أن نعترف بأنّ محلّ النزاع والمغالبة إنّما هو نمط عيشنا ووجودنا بين تحديث متعرّج ، عسير لا مناص منه و " أخونة " أو " أسلفة " مستحيلتين تاريخيا.
     فالثّابت في هذا كلّه أنّ الدين في قراءته الشعبية سيظلّ قائما شأنه شأن التصوّف العالم والرؤية السّنية الأصولية المسالم منها والمتطرّف والمساعي التجديدية في التعامل مع المتن الروحي والكتاب.
     لن يتغيّر نمط العيش والمجتمع وإن شبّه لبعضنا ولكنّ ما يجب أن يتغيّر في مجتمع حرّ تعدّدي بالضّرورة إنّما هو نمط التعايش بين النّزعات الرّوحية والفكرية والثقافية بعيدًا عن العنف والقتل والحرق.
مرة أخرى، يتلهّى أهل الحداثة و أبناء التحديث التونسي بحرب خاطفة لم يختاروها و لا اختاروا توقيتها أو فواعلها باسم الدفاع عن ثقافة  المجتمع و المحافظة على التراث.يتلهّون بذلك عن بناء ما هو خير و أبقى: إثراء ذاكرة الآتي بأفقها الكونيّ الرحب المستوعب لرصيدها الموروث استيعابَ إدماج وتجاوز.

        

mardi 8 janvier 2013

الفساد المقنّن


رسالة مفتوحة إلى السّيد رئيس الحكومة المؤقّت

يطيب لي، بصفتي الوظيفيّة النّابعة من اختيار حرّ شفّاف لزملائي الأساتذة الأجلاّء، وبصفتي مواطنًا مسؤولا حريصًا من موقعه الأكاديميّ والأخلاقيّ على تنمية بلاده والمؤسّسة التي يشرف عليها أنْ أتوجّه إليكم لأطرح عليكم، بحكم موقعكم في جهاز الدّولة وصلاحياتكم الواسعة، وجهة نظري في أمرٍ مصيريّ لمؤسّساتنا واقتصادنا ومستقبل وطننا.
فقد قرأتُ لكم تصريحات تبرز عزم الحكومة على «محاربة الفساد بكلّ أوجهه وفي كلّ المجالات ولكن في إطار احترام القانون». وهو أمرٌ محمود، لا يختلف فيه مسؤولان مهما كان موقعهما بسبب أنّ الثّورة قامت ضدّ الفساد ونتائجه المدمّرة للبلاد والعباد وبسبب استفحال الفساد، وهذه مفارقة كبرى، بعد الثّورة. وأنتم أدْرَى منّي بتراجع تصنيف بلادنا إلى المرتبة 75 في سلّم الدّول الأكثر فسادًا في العالم حسب ما تزعمه منظّمة الشّفافيّة الدّوليّة بعد أن كانت في المرتبة 59 سنة 2010.

ولقد قرأت لكم بالتّوازي مع ما ذكرت، حديثًا غريبًا، وإن كنتُ لم أستغربه لأسباب أنا لك ذاكرها بعد حين، عن التّنمية في الجهات خلال سنتكم الأولى من الحكم. وقدّمت أرقامًا لَمْ أَرَ أنّها أثارت انتباه المعلّقين ولا استدعت تساؤل المحلّلين الاقتصاديّين وغير الاقتصاديّين.
من ذلك ذكرك لنسبة 60 % من إنجاز ميزانيّة التّنميّة بعد ستّة أشهر من عمل الفريق الحكومي. وقد فسّرت التّأخير في الإنجاز بتدهور الظّروف الأمنيّة مقدِّمًا ولاية سليانة مثالاً على ذلك رغم أنّ الأحداثَ وقعت في الثّلاثيّة الأخيرة من السّنة الحاليّة أي بعد أكثر من عشرة أشهر.

وذكرت، في ما اطّلعت عليه من تلخيص للّقاء الذي أجريته مع إحدى القنوات التّلفزيّة التّونسيّة، مبلغ 6200 مليار من الأموال المرصودة للجهات ولكنّها لم تصل إلى تلك المناطق ومن ثمّة نفهم أنّها، على ضخامتها النّسبيّة، ظلّت حبرًا على ورق وأرقامًا افتراضيّة لا أثَرَ لها في الواقع.
وكرّرتَ مرّة أخرى رجاءَك في ألاَّ تُعطِّل الأحداثُ الاجتماعيّةُ في هذه السّنة (2013) آلةَ إنجاز المشاريع الموعودة وقد رأيْنا على الشّاشاتِ، يوم الاحتفال بالذّكرى الثّانية للثّورة في سيدي بوزيد (17 ديسمبر 2012)، السّيد رئيس الجمهوريّة المؤقّت في حيرةٍ من أمره بعد الوعود التي قطعها على نفسه، ونفس الدّولة، منذ سنة خَلَتْ. ومأتَى حيرتِه أنّ الأموال، على ما زعم، قد رصدت في الميزانيّة ولكنّه لم ير تنمية ولا مشاريع ولا هم يحزنون. فحيرته جزء من حيرتكم ومن مارس التّصرّف في ميزانيّة الدّولة لا يحتار بل يتحسّر على الإصرار على الخطإ. فإذا عُرِفَ السّببُ كما قالت العربُ بَطُلَ العَجَبُ وزالتِ الحيرةُ.

السيد رئيس الحكومة ،
لستُ مختصًّا في الاقتصاد ولكنّني، من خلال أداء مهمّة الأمر بالصّرف في مؤسّسة من مؤسّسات الدّولة وإن كانت ذات خدمات مخصوصة بحكم صبغتها الأكاديميّة، فإنّني أترجم كلامَك في مصطلحات ماليّة على نحو مغاير أحاول به تخليص التقني المالي من السّياسي. فيكون مفاد قولك أن الحكومة التي تشرفون عليها لم تصرف ميزانيتها لسنة 2012 كاملة وبقِيَ منها (على الأقلّ ما يخصّ التّنمية!) 40 % ولا أظنّ أنّ هذه الأموال المرصودة قد صُرِفَتْ في ما تبقّى من شهر ديسمبر الذي قمت في بدايته بلقائك التّلفزيّ.
ولو فعلت، أنا هذا، في الجامعة التي أشرفُ عليها لاعتُبِرْتُ، في نظر وزارتي ووزارة الماليّة ورئاسة الحكومة، متصرِّفًا سيِّئًا في الميزانيّة وربّما خفّضوا لي الأموالَ المرصودة في الميزانيّة المقبلة.

غير أنّني أتفهّم الأسبابَ التي ألخّصها في عبارة على قياس بيتٍ شعريٍّ للمتنبّي «في الوزارةِ الأولى الخصام وهي الخَصْمُ والحَكَمُ». فما ذكرته، معالي الوزير، تعيشه جميع المؤسّسات العموميّة بسبب «إمبرياليّة» الوزارة الأولى ووزارة الماليّة وبسبب التّصوّرات الفاسدة عن حماية المال العمومي التي ورثتها وزارتكم وما تزال متشبّثة بها تشبّث البخيل الذي ضاع في التُّرَبِ خاتَمُه. وهنا بيتُ القصيدِ في رسالتي التي بدأتْ بحديثِكَ عنِ الفسادِ واستُؤْنِفَتْ بحديثك عن ميزانيّة التّنمية.
فإذا كان للفسادِ المستشري في قطاعات عديدة تتلاعب بالمليارات آليّاته وأسبابه فإنّ في الدّولة فسادًا من صنفٍ آخرَ يعطّل التّنمية ويبعث اليأسَ في النّفوسِ ويكبِّل القائِمين على المؤسّسات العموميّة، ويمنعهم من النّهوض بها. وهو ضربٌ من الفساد، اسمحوا لي، بأنْ أُتّهَمَ في الضّلوع فيه الوزارة الأولى وقوانين الدّولة. وإليكم بعض التّفصيل.
يبدأ الفسادُ، سيّدي الوزير، عند تقسيم الميزانيّة نفسها. فلا معايِيرَ واضحة شفّافة لِمَا يُسْنَدُ إلى هذه المؤسّسة أو تلك ولا عقدَ رابطًا بين المؤسّسة المعنيّة والوزارة المشرفة. إنّنا نسير على غير هدًى، في الأغلبِ الأعمّ، لا نعرف واجباتنا ولا التزاماتنا. فسلطة الإشراف هي التي تمسك بزمام الأموال وتقسّمها بمعايير لا تعلمها إلاّ هيَ. وهو أمْرٌ يدعّم اختلال التّوازن بين الالتزامات والأهداف ويترك مدخلات العمليّة كلّها في أيدي الوزارات المركزيّة. هذه مركزيّة موروثة عن دولة الاستبداد القصد منها أنْ تُحاسِبَ متى تشاء ولا أحد بإمكانه محاسبتها كالإله الخفيّ يفعل ما يريد. فكيف للعبد المأمور الذي لم يشارك في صنع القرار أنْ يتحمَّسَ لتطوير مؤسّسة وتنميتها؟
وإذا سلّمت بهذه الطرّيقة المستبدّة غير العقلانيّة في توزيع ميزانيّات الوزارات على المؤسّسات التّابعة لها بدأت أوجاع الرّأس والقلب جميعًا. والسّبب فيها أسلوب في المحاسبة العموميّة بالٍ متخلّف أُثبِتَ تاريخيًّا وواقعيًّا عدم نجاعته لا في تيسير صرف الميزانيّات فحسب بل في حماية أموال الدّولة بالخصوص.

فقد وُضِعَ على أساس منطق المحاسبة القبليّة لتأمين أموال المجموعة الوطنيّة حتى تعرف بطريقة سلميّة لا تتلاعب بها أيادي السّوء. فالآمر بالصّرفِ مُتّهََمٌ قبل أنْ تثبُتَ إدانته في كلّ ملّيم مهما كان، يتربّص به جيشٌ من مراقبي المصاريف الذين تشغّلهم الوزارة الأولى وتسلّحهم بقوانين متخلّفة بكثرة إجراءاتها وتعقيداتها وبمناشير بائسة أساسها المنع والتّعطيل لا التّيسير والتّعجيل كأنّ الأصل في المعاملات الماليّة للمؤسّسات هو سرقة أموال الدّولة لا صرفها في ما ينفع.
وقد كنّا نرضى بهذه التّعقيدات والإجراءات وضروب المراقبة لو أدّت بالفعل إلى حماية المال العام، وقد كنّا نصبر على طول آجال التّنفيذ والتّشكيك في كلّ شيء لو صان حقوق الدّولة ومساهمات دافعي الضّرائب. ولكنّ الواقع أثبت من قبل، وما يزال يثبت رغم تقارير دائرة الزّجر الماليّ، أنّ السّرقات الحقيقيّة للمال العامّ تتمّ بطريقة قانونيّة لا يستطيع أيّ مراقب للمصاريف أن يضع يده عليها بل يُمضي بالموافقة راضيًّا مرضيًّا في حين أنّ الماء يجري تحته أنهارًا من الفساد والمحسوبيّة والرّشوة حتى أضحت المراقبة الماليّة جهازًا متضخّمًا يمتلك سلطة واسعة للتّعطيل وإطالة مدد التّنفيذ دون أن يكون قادرًا فعليًّا على حماية المال العام.

سيّدي الوزير،
لسنا ندعو إلى ترك حبل التّصرّف في المال العام على غارب الأهواءَ وأخلاق الأفراد ولسنا نطلب حلّ جهاز الرّقابة الماليّة ولكنّنا نودّ لفت الانتباه إلى أنّ ما يقع يوميًّا بسبب هذه الآليات في المراقبة هو عين الفساد والإفساد من حيث قُصِدَ الإصلاح والحماية.
فأن يكون الطّلبة دون قاعة تدريس أو أثاث بيداغوجي أو حافلة للدّروس الميدانيّة أو حواسيب من صنف رفيع، وأن تظلّ مؤسّسات عديدة في حالة مزرية متقادمة، بناءاتٍ وأثاثًا، ودون الحدّ الأدنى من التّجهيزات ووسائل النّقل، أن يكون هذا وغيره كثير موجودًا يدرك عيانًا ويكون المال، في الآن نفسه، متوفّرًا في المؤسّسات الجامعيّة التي تعجز عن صرفه لطول الإجراءات وتعقيدات القوانين ووجوب المراقبة القبليّة ومناشير الوزارة الأولى وتراخيصها التي قد تأتي وقد لا تأتي (وهو الغالب) إنّما عين الفساد والإفساد.
هو عين الفساد لأنّنا نرى الاعوجاج والخلل والخطأ المنكر ولا نصلحه، وهو عين الفساد لأنّنا نأخذ أموال دافعي الضّرائب ولا نصرفها في الصّالح العام.
وهو عين الفساد لأنّنا مسؤولون عليه نتعلّل بالخوف من مخالفة القوانين ولا نخاف شعبنا الذي ينتظر منّا إنجازات حقيقيّة نحن قادرون عليها ولكنّنا نخشى الوقوع في الخطإ.

فما معنى مثلا، وهذا مجرّد مثل نضربه، أنْ تفرض قوانين المنافسة المزعومة والشّفافيّة الكاذبة أن تشتري المؤسّسات الجامعيّة الحواسيب بالثّمن الأقلّ ولكنّها سرعان ما تصبح غير صالحة رغم المواصفات التي توافق عليها وزارة تكنولوجيّات الاتّصال والحال أنّ الجميع يعرف أنّها غير صالحة ؟ أليس هذا هو عين الفساد ؟ وما معنى أن تمنع الوزارة الأولى اقتناء السّيّارات الإداريّة والسّيّارات الوظيفيّة على مؤسّسات الدّولة وتحصرها في الوزارات ولا ترخّص للمؤسّسات رغم أنّها تعلم علم اليقين تقادم أسطول السّيارات وتعرف حقّ المعرفة أنّ ما يُصرَف عليها من أموال الإصلاح يفوق اقتناء الجديد منها ؟ أليس هذا هو عين الفساد المقنَّن وبمباركة من الوزارة الأولى التي تشرفون عليها ؟
وما معنى ألاّ يكون للآمر بالصّرف حقّ تأجير كلّ من يقدّم خدمةً لمؤسّستِه دون الرّجوع إلى هذه الوزارة أو تلك وأحيانًا إلى الوزارة الأولى نفسها وهي أجورٌ حين نتثبّت لا تمثّل شيئًا بحكم تقنينها بطريقة عبثيّة غالبًا ما تمنع الخبراء من أنْ يتحمّسوا للمشاريع التي يُشَرَّكون فيها وتجعل مُسْدِيِي الخدمات يفضّلون تطبيق المثل الشّعبي "مخزن مغلق خير من كراء لا نفعَ فيه" ؟ أليس هذا هو عين الفساد ؟
وعلى هذا لَكَ سيّدي الوزير أن تقيسَ الأشباهَ والنّظائرَ. والحلّ واضح لك ولنا : لا بدّ من إضعاف مركزيّة القرار، لا بدّ من عقود تربط المؤسّسات العموميّة بالدّولة (وزارات وحكومة)، لا بدّ من حرّية واسعة في التّصرّف مع كثير من المحاسبة البَعْدِيّة. لا بدّ من استقلاليّة الجامعات وتمكينِها من أنْ تُطوِّرَ نفسَها في إطارِ الشّفافيّة وتحمّل المسؤوليّة.

وما لم تفهم الوزارة الأولى أنّها موجودة لتُسيِّرَ لاَ لتُهيْمِنَ وأنّها ليست أهمّ من المؤسّسات التي تواجه الواقع اليوميّ الصّعب وأنّها مطالبة بالتّنسيقِ لا بالتّوجيه والإملاءات فإنّنا سنظلّ دائمًا على هذه الحال البائسة : نخضع لقوانينَ معطّلة فنعتادها ونتآلف معها فنخاف المساسَ بها فتبقى الأمور كما هيَ لا تتقدّم إلاّ بعد فواتِ الأوانِ لنَجِدَ أنفُسَنَا أخيرًا ضمن منظومة الفساد غير المعلَن فرحين مسرورين بأنّنا لم نسرقْ أموالَ الدّولة وندّعي شرفًا لسنا جديرين به لأنّنا أضَعْنا فُرَصًا عديدةً متلاحقةً لتطويرِ مؤسّساتِنا.
لهذا كلِّه، سيّدي الوزير، أدعوكم إلى تحديدِ مَوَاطِنِ الخَلَلِ في منظومة الفسادِ الخفيِّ الذي تعيشه مؤسّساتُنا ولا تعاقب عليه لأنّه مقنَّن أمّا الفساد المعلَن فهو واضحٌ جليٌّ. والطّريقةُ في مقاومته معروفة للجميعِ.
إنّ إرثَ الدّكتاتوريّة لن يصفّى إلاّ بالقضاء على عقليّة الدّكتاتوريّة ومن وجوهها مركزيّة القرار والمحاسبة القبليّة وترسانة القوانين المعطّلة للمؤسّسات عن أداء مهامّها. اِبدؤوا، سيّدي الوزير، بالكَنْسِ أمام الوزارة الأولى، عندها سيتداعَى بُنْيَانُ الفساد في المؤسّسات العموميّة.

vendredi 28 décembre 2012

النّرجسيّة الجريحة




 (1)
من وجوه الحداثة في الفكر والحياة إعمال النّظر في غير المفكّر فيه لإظهار المضمر وكشف المخفيّ واستنطاق المسكوت عنه. فالحداثة ، في بعض دلالاتها ، إعلان وفضح يفضيان إلى أزمة داخل التّصوّرات والمفاهيم وإلى مراجعة ما يبدو متماسكًا مستقرًّا ، فتدخل إليه دودة الشّكّ والارتياب ليخرج لنا ألسنةً هازئًا بثوابتنا فيجعلنا نستعيد قدرتنا على الدّهشة والتّعجّب.
والواقع أنّ كثيرًا ممّا نشهده اليوم في ثقافتنا العامّة ومشهدنا المتداخل القلق ، بتردّداته وتنافر مكوّناته، إنّما هو صورة مشوّشة عن مسار التّحديث الذي يستوعب القديمَ المستعيد لأوهام صنعت في سياقات معرفيّة تقليديّة وحقائق انتهت صلاحيّاتها التّاريخيّة بقدر ما يستوعب الحديث الذي ينبني على أوهام جديدة صنعها اغتراب البشريّة الحالي ويبشّر بحقائق تنبثق كالوعد الحقّ. وبينهما ، بين العتيق المترسّخ والآتي غير المتوقَّع ، طيفٌ من الضّلالات والظّلال والصّور المنعكسة على المرايا المحدَّبة والمقعَّرة جميعًا حتى لكأنّ الواحد يحمل في داخله كثرة وتعدّدًا يفوقان الحصر.
إنّه حظّنا من عصرنا ، وقدرنا في عهد أتاح لنا ما لا عين من عيون أسلافنا رأت ، وما لا أذن من آذان من قبلنا سمعت.
 (2)
 وقد ذهب في وهم عدد من أبناء سياقنا الحالي بعد الرّابع عشر من جانفي ، أنّنا سنأتي ، بفضل الممكن التّاريخيّ ، بما لم تأت به الأوائل من أنظمةِ قيمٍ ومعايير أخلاقيّةٍ وتصوّرات إنسانيّة نقترحها على البشريّة الغارقة في استلاب طال ومشهديّة خانقة صنعها رأس المال المنفلت من عقاله.
وعد زائف صاغه بعضنا فصدّقه والحال أنّنا أصبحنا نخشى على كلّ شيء : ممّا اعتبرناه "مكاسب" هي بعضٌ من الحدّ الأدنى الذي نطابق به عصرنا ، إلى نمط عيشٍ بدا لنا تأليفًا بين ما تنافر في أعطاف تراكم تاريخيّ طويل.
انتقلنا بسرعة من نرجسيّة متفائلة مرحة إلى نرجسيّة جريحة شقيّة. كنّا نتوهّم إمكان الابتداء بالإبداع فإذا بنا نركن إلى الخوف على ما وجدنا عليه آباءنا.
فأيّة ثورة هذه تخرج لنا الأموات من قبورهم ليحكموا رقابنا وتطلق عفاريت المكبوتات والأحقاد والغباء المصفّى لتهدّد وجودنا الثّقافي في زمننا الرّاهن ؟
 (3)
الحداثة أفق مدهش يتوسّع بقدر ما نتقدّم في الطّريق إليه. وفي الطّريق أفخاخ وحجارة وحطامُ بناءات متداعية وجثثٌ متعفّنة مازالت ، وياللمفارقة ، تتنفّس ولكن علينا أن نمرّ بها.
والمفارقة أنّ البوصلة واضحة تتطلّب منّا شيئًا من التّواضع ، وبعضًا من جراح الكبرياء الثّقافيّ وقليلا من حسن الإصغاء إلى نبض التّاريخ وسلامة البصيرة.
لسنا وحدنا متمركزين على هويّة لا تتزحزح. فقد جرحت البشريّة في الصّميم حين اكتشفت ، وما بالعهد من قدم ، أنّ الأرض ليست مركز الكون ، وتألّم الإنسان كثيرًا حين كشف التّحليل النّفسي وهم الوعي فيه. وقد لا تكون أمّة المسلمين قد استوعبت "صدمة الحداثة" بعد انهيار المجد الأثيل ولكن لا سبيل لها باديًا إلاّ أن تستعدّ إلى مزيد الصّدمات رغم المعاندة والمكابرة.
البوصلة واضحة والسّيل سيجرف ، طوعًا أو كرهًا ، الجميع. أمّا ماعدا ذلك فمزيد من إضاعة الفرص الثّقافيّة والوقت الحضاري باسم الثّوابت والخصوصيّة والهويّة وما إليها ممّا لا نفع ولا خير للقائلين بها قبل غيرهم.

mardi 18 décembre 2012

نكبة نخبتنا



1
كانت العرب تقول إذا تكلّم أحدهم بلا تفكير ولا رويّة : "ألقى الكلام على عواهنه". وتطبيقًا للمثل العربيّ قال صاحب المتن ، وقد استعار لسان السّلاطين، "نكبتنا في نخبتنا لأنّهم كَيْتَ وكيتَ ولأنّهم كذا وكذا ...". ولك أن تملأ الفراغ بما شئت ما دام السّجع على لسان صاحب المتن موقّعا رائقا ، صادما صارما، مفتوحا على احتمالات شتّى.
لسنا نريد أن ندافع عن النّخبة التّونسيّة المنكوبة بعيّ الخطباء وقلّة فصاحتهم. ولكنّنا نودّ لفت الأنباه إلى بعض المفارقات الطّريفة.
فقد أعجبني ، والحقّ يقال ،أن يخرج صاحب المتن نفسه من النّخبة لينتصب في موقع أعلى يستمدّه من منطق الدّولة لا من ديناميكيّة المجتمع. فقد كان ،بالأمس القريب، بعضًا من هذه النّخبة ونكبتها ينازع الدّولة ويشكّك في شرعيّتها المهترئة وها هو اليوم ينفصل عنها ، إذ غيّر الموقع، مُؤْذِنًا بإحداث لا نظير له في التّاريخ إلاّ قليلا : فقد اعتدنا أن تنقد النخبةُ السّلطةَ وتسلّط الضّوء على نزعتها الفطريّة للتّسلّط وتهاجمها دفاعًا عن المجتمع وتعلّقا بجمهوريّة أفلاطون وتمسّكا بمطلق الحرّية ولكنّنا  وصلنا إلى عهدٍ جديدٍ غريبٍ أضحت فيه النخبةُ نفسها مدعاة لتهجّم أصحاب السلطة  وتبرّمهم منها. وهذا ، لو تأمّلنا ، من نكّد الدّهر على الأحرار كما يقولون.
2
وكادت العرب أن تقول، قياسا على حديث نبويّ شريف ، "إذا لم تستحِ فَقُلْ ما شئت" ولا فرق عند تدبير شؤون المدينة بين القول والفعل إذِ الأقوالُ أعمالٌ ومنها انّ هجاءَ النّخبة طعنٌ في أدوارها التي تضطلع بها.
والمفارقة كامنة في أنّنا لم نعرف تحديدًا المقصود بالنّخبة التي كانت سببًا في نكبتنا. فهي نُخَبٌ في شتّى مناحي الثّقافة والمجتمع والسّياسة.
وهي نخب حملها صاحب المتن والسّلطة على الإفراد جامعًا في دلالته ما لا يتجانس منطلقاتٍ ومواقفَ. ولكنّه حريّ بنا هنا أن نصرّفها في الجمع على معنى التّفريق والفصل ، كما هو واقع الحال ، لنؤكّدَ حيويّةَ الجدل وتفاعلَ متناقضِ الآراء ومتضاربِ التّوجّهات.
فأيّها يقصد صاحب المتن ؟
أيقصد من دعا إلى تطبيق منطوق آية الحرابة ضد المحتجّين ؟ أم من ينازع في المساواة بين النّساء والرّجال ؟ أم من يتردّد في تبنّي كونيّة حقوق الإنسان ؟ أم مَنْ مازال يحلم بشريعة لم تغادر أطلالها ؟ أم مَنْ يهاجم منظّمات المجتمع المدني المناضل ومؤسّساته المدافعة عن النساء والمعطّلين والشغّالين؟
أيقصد من هبّت عليه نسائم الثّوريّة والديمقراطيّة بأَخَرة ولكنّه يبعث اليأس في النّفوس ويُثقل كاهلَ المعدمين ويفقأ عيون المحتجّين بعد أن وعدهم بجنّات عدن وبتدفق الصّكوك الحلال ؟ أم يقصد الوحوش الكواسر التي تنهش، على الحقيقة والمجاز ، جرحانا من المواطنين وهم ينزفون دمًا.كواسر وجوارح وغربان  متمسّكةٌ بأوهامها متشبّثةٌ بكراسٍ عاجزة عن ملئها بأجساد ضعيفة سقيمة ونفوس أسكرها المجد الكاذب وعقول أغوتها شهوة السّلطة ؟
3
كانت العرب تقول " تلك العصا من تلك هذه العصيّة هل تلد الحيّةُ إلاّ الحيّةَ" فكلتاهما من شجرة زَقُوم السّلطة والحيّتان بلدغهما شيء واحد.
والمفارقة، ها هنا، أنّ هذه الأقاويل والتّقوّلات التي تذمّ نخبنا تلصق بها تهمة الأنانيّة والمصالح الشّخصيّة والفئويّة والأجندات الخارجة عن الصّفّ الوطنيّ وتتهجّم عليها فتراها ثّرثارة لا تعرف فصل المقال ، تنكّل بها لأنّها تتخاصم  ولم تجد سبيلاً إلى الوفاق الوطنيّ ، كلّ هذا سمعناه من قبل ، حين كان الملك المخلوع يتّكِئُ على عصا المصلحة الوطنيّة ويهشّ بها على معارضِيه. سمعناها من الأمّيّ الذي كان يحتقر النّخب والمثقّفين ولا يراهم صالحين إلاّ إذا تملّقُوا ودعّموا أركان دولته في عهده الزّاهر العامر.
وها أنّ التّاريخ ، تاريخ احتقار النّخب وتحميلها وزر الفشل ، يعيد إنتاج خطابه المفضوح في شكل يجمع ، هذه المرّة ، المهزلةَ إلى المأساة  حتى صرنا لا نعرف إلى أيّ جانبيْ الخطاب نميل.وهذه ، حقّا وصدقا ، نكبة نخبنا في هواة الخطابة العاجزين عن سياسة القول وسياسة الناس معا. وهي لعمري  أعظم وأخطر من نكبتهم.
وصدق من قال " عاش من عرف قدره فجلس دونه".