dimanche 28 avril 2013

في الموسوعة التونسيّة



1
يمثّل إصدار بيت الحكمة للموسوعة التونسيّة حدثا ثقافيّا جللا يصادف لحظة فارقة من الزمن الثقافي التونسيّ.فنحن نشهد مناكفة حادة ، تبدو لنا حاسمة، في شأن ما به تتحدّد خصائص الهويّة الوطنيّة للتونسيّين والرهانات الحضاريّة الكاشفة عن مسارات الآتي. فالبيّن أنّ أهل هذه البلاد دخلوا في مرحلة شكّ وتشكيك في السرديّة التي كانوا يعيشون بها وتتغذّى منها أرواحهم وعقولهم.فأوصلهم الشكُّ إلى مفترق طرق تؤدّي جميعها إلى تغليب الخارجيّ المحيط بهم ثقافيا وجغرافيّا على الداخليّ الخصوصيّ.ويستتبع هذا الانتقال من السرديّة القديمة إلى السرديّات الأخرى أمرين متلازمين:أحدهما المحو، محو غير المطابق للكتابة المنشودة وللذاكرة المطلوب صنعها والآخر تمزيق الحدّ الأدنى من قماشة الثقافة المشتركة ليجد التونسيّ نفسه في العراء باحثا عمّا يستره من الملابس الضيّقة جدّا أو الفضفاضة أكثر ممّا يجب.فيبدو في هذا متضايقا وفي ذاك مضحكا. وفي الحالات جميعا نرى العلم الوطنيّ ينتزع ويمزّق ويحرّق بسبب كرة القدم أو ترفرف أعلام أخرى ورايات غريبة بدل الراية الموحّدة.
2
صدرت الموسوعة التونسيّة لتكون متحفا تجتمع فيه الأعلام والمعالم والمواقع والأحداث والمدن والمؤسّسات.قد يكون ثمّة سهو هنا أو نقص هناك ولكن الجهد بدءا من الفكرة والتصوّر جهد سخيّ ولا ريب.فالموسوعات باعتبارها مجمعا للذاكرة المشتركة وجمعا لشتات المعارف الحاصلة تقبلُ التنقيح والتصحيح والتعديل والإضافة.فإن هي إلاّ طبعة تجريبيّة وإن كانت نسخة توصّل إليها المشاركون والمشرفون من المختصّين بعد سنوات من الكدّ والجهد.
بيد أنّ هذا الجهد قديم بدأ منذ عقدين من الزمن ولا نرى وجها أخلاقيّا ولا معرفيّا لتناسي من ساهم فيه بالتحرير واقتراح المداخل أو الرأي والمشورة.والغريب أنّ أوّل المنسيّين ، حتّى نحمل الأمر على مجرّد النسيان وإن لم يكن نسيانا،هو رئيس بيت الحكمة الأسبق الأستاذ عبد الوهّاب بوحديبة.
نعم قد يكون لنا احتراز على الرجل ، احتراز سياسيّ يعود إلى ولائه السابق وعلاقته بدولة الاستبداد.نعم قد يرى أحدنا في ممارسته عند إشرافه على المجمع تحويلا لمؤسّسة علميّة أكاديميّة تنتج الثقافة النوعيّة إلى ناد ثقافيّ لم يضطلع، على الوجه المطلوب، بالمهامّ الأصليّة.نعم قد نختلف معه في هذا الأمر أو ذاك ولكن لا يجوز أخلاقيّا ألاّ نعترف لذوي الفضل بفضلهم ولأصحاب المشاريع بأفكارهم. نعم وضع الأستاذ بوحديبة البيض كلّه في سلّة واحدة فوقعت السلّة بما فيها ولم يعد له ما يخسر.ولكن ما الذي خسره من لم يدعه إلى حفل تقديم الموسوعة التي ساهم في صناعتها ولو بالإشراف؟ ولماذا لم يُذكر المشاركون في التحرير؟ ألأنّ منهم من والى النظام البائد ولا تسمح الظروف التي حوّلت الجميع إلى ثورجيّين جدّا مجانا بذكرهم؟
3
أحبّ أن أشير إلى أمر يتّصل بهذه الموسوعة قد يبدو ثانويّا للناس ولكنّه عندي حمّال دلالات كثيرة.فقد سبق لي أن دعيت إلى الإسهام فيها باقتراح المواضيع والمداخل و بالتحرير وتأليف فصول  لمّا كانت مجرّد مشروع. غير أنّني رفضت ،على تقديري للمشروع وإيماني بالحاجة إليه.أمّا سبب الرفض فيعود إلى ما اقترح على الكتّاب والمؤلّفين ، وهم من المختصّين في علومهم وأبوابها، من مقابل زهيد بدا لي أنّه ينمّ عن احتقار للخبرة والعلم والجهد.وهذا دأب المؤسّسات التونسيّة في التعامل مع إسهامات المختصّين والمبدعين وحقوقهم الماديّة والمعنويّة التي تنصّ عليها المواثيق الدوليّة والقوانين الوطنيّة.فلئن كنّا نتفهّم الخواصّ وأصحاب المشاريع التجاريّة في سعيهم إلى الربح على حساب العاملين بالفكر فإنّ اتّباع الدولة وأجهزتها ومؤسّساتها لسلوك الخواصّ ، أو بعضهم، لممّا يدلّ عندي دلالة قاطعة على أنّ مكانة المثقّف والمبدع والفنّان والمفكّر والجامعيّ والنخبة عموما في عيون السلطة السابقة لهي في أسفل السافلين.فما الذي يدلّ اليوم على أنّ الحال تغيّرت؟

mercredi 3 avril 2013

الخطاطيف والبوم



1
سألني المذيع التلفزيونيّ العراقي عن المشروع الثقافي العربيّ وسبل النهوض بثقافتنا لتتبوّأ مكانة مميّزة في المشهد الثقافي الكونيّ.كان ذلك في بغداد بمناسبة استهلال أنشطتها عاصمةً للثقافة العربيّة هذه السنة وسط إجراءات أمنيّة مشدّدة تشهد، هنا في بغداد  كما في غيرها من عواصم العرب وإن بدرجات متفاوتة ، على جرح غائر لا أحد يعرف كيف سيندمل.
كنت حاملا معي ، بحكم جنسيّتي على الأقل،بعض أمارات خطاطيف الربيع العربيّ الذي انقلب شيئا فشيئا إلى خريف متقلّب تسكنه رياح السموم القادمة من الصحراء وتعشّش فيه خفافيش الظلام وتحلّق في سمائه غربان تنثر السواد حيثما طارت أو حلّت.
  كان السؤال ،حين نربط العواصف العربيّة ووعودها بعاصمة اصْطُفيت بسبب مجدها القديم وإسهامها الحديث للتكريم،سؤالا قلقا عن الآتي أو هو كان  ،في أفضل الأحوال، سؤالا حالما محمّلا بالأمل.ولكن من أين لي أن أبذر الآمال والأحلام وما يحيط بنا ، هنا وهناك، لا ينمّي إلاّ مزيدا من اليأس والكوابيس ؟
2
ماذا لو تبيّن لنا أنّنا لا نملك ما نقدّمه للبشريّة المعاصرة ولأنفسنا من جديد القيم والمعاني وبديع الأفكار والرؤى ومخصب التصوّرات والمقترحات؟ ما الذي سنقترح على البشريّة : قيم الطوائف والقبائل والعشائر؟ أم أصول الحدود المهينة للكرامة البشريّة ؟أم دونيّة المرأة؟ أم الاستبداد باسم الواحد الأحد ؟أم فنون العنف والإرهاب؟ فللبشريّة بعض من هذا عبرت ، بالأمس ، عن سخطها عليه ثمّ عملت وما تزال تعمل ، اليوم، على القضاء عليه؟
ألم نر إلى أنفسنا نقدّم رجلا في دروب التفاعل مع الفكر الكونيّ الحيّ المؤثّر ونؤخّر أخرى مغلولة إلى وهم خصوصيّة لا نحبّ أن نراها إلاّ في ماض منقضٍ ومجد أثيل لم يعد من الممكن البناء عليه؟
ألسنا متسمّرين في مهبّ الثقافات المبدعة بأشجارها الخضراء الباسقة متشبّثين بنخلتنا المتيبّسة وأعجازها المنقعرة ذاهلين عن تيّارات الروح والمعنى التي تنفخ في الإنسانيّة ريحَ حياةٍ قويّة متجدّدة نردّها على أهلها محتجّين بأنّنا وجدنا آباءنا على هذا وما نحن بمغادرين أطلالا تلوح كباقي وشمٍ  لا ألق فيه ولا حسن.
مازلنا نضع موضع الشكّ والرفض ما تمخّض عنه صراع الإنسانيّة لإعادة تعريف ذاتها وما زال منّا من يحذر بغباء أصيل متأصّل مدنيّة الدولة والمساواة بين الرجال والنساء ، تمام المساواة، والحرّيّات الفرديّة والجماعيّة وجميع البديهيّات المقرّرة في المتون الحديثة التي حوت حقوق الآدميّين أفرادا وشعوبا.مازال منّا من يبحث بحث شحيح ضاع في الترب خاتمه عن مدى مناسبة تلك الحقوق للسائد من معتقداتنا والموروث من تصوّراتنا للإنسان والكون والخالق.
3
أيّ مشروع ثقافيّ عربيّ ممكن إذا لم نأخذ كتاب الثقافة البشريّة بقوّة ونجلس ممّن سبقنا إلى حضارة اليوم ، فنونا وإبداعا وتقنيات وعلوما، مجلس المتعلّم؟كيف لنا أن نسأل عن مشروع ثقافيّ ونحن لم نتخلّ بعد عن أوهام مركزيّتنا وجرح نرجسيّتنا البائسة وتمثّلنا غير المطابق لحيواتنا ومآلتنا؟ متى أمكن لأمّة أن تصنع ثقافة مبدعة تدعو إلى مائدتها الباذخة الشهيّة الآخرين وهي ما تزال تخشى ركوب المخاطر وترهب السبل البكر وترغب عن المغامرة؟
لقد حملت خطاطيف الربيع العربيّ وعدا بربيع مدنيّ مواطنيّ نصوغ فيه وبه رؤية جديدة ممكنة لمنزلتنا في الكون ومكانتنا في منظومة القيم المعبّرة عن رحيق الأفكار التي اعتملت منذ قرون.ولكن من البيّن أنّ "الواحد منّا ، كما قال مظفّر النواب بحزن الشاعر وسخطه الجذريّ، يحمل في الداخل ضدّه" جهلا وعنادا ومكابرة؟
ولهذا الضدّ أسماء بذيئة كريهة عديدة هي التي جعلت ثقافتنا العربيّة تخبط خبط عشواء لم تغادر بعد كتب الفرْق بين الفرق وصحائف الملل والنحل وأكذوبة الفرقة الناجية التي لن تنجو أبدا مادامت لم تأخذ بأسباب التعدّد والاختلاف والتسامح.
ألم تقل الحكمة إنّ الخطاف لا يصنع الربيع وإنّ البوم لو كان في صيده خير لما خلّفه الصيّادون وراءهم؟        

غنائم التاريخ





1
يعامل السياسيّون عندنا تاريخ البلاد المعاصر،وقائع ورموزا،معاملة غنائم حربٍ لم يخوضوها في الإبّان.يملؤهم ، باسم العدل والإنصاف والحقيقة، حقد دفين كالسمّ الزعاف يدسّونه في طعام الذاكرة على مائدة الوطن وفي وليمة الزمن.
ينسفون الرموز المستقرّة ويصطنعون رموزا أخرى مستلهمين فكرة البدايات من أرض محروقة واضعين دولة الاستقلال بين قوسين لأنهم لا يرون فيها علما ونشيدا ومشروعا يطابق أضغاث أحلامهم.
يريدون إعادة كتابة القصّة وتغيير مكوّنات السرد ، يأخذون الصفحة البيضاء ، يشطبون الفقرات والجمل ، يغيّرون أسماء الأبطال الأساسيين والثانويّين ولكنّهم لا يصنعون قصّة ملهمة أبلغ وأكثر تناسقا.
يضعون الأحداث على سرير بروكست : يقطّعون أطرافا من الأرجل ،يقطعون الرأس إن لزم الأمر ،يمدّدون إصبعا من الرجل اليمنى أو اليسرى ، على هواهم،ليوافق امتداد السرير الذي يتوهّمون.
يصنعون من الفراغات وهوامش حركة التحرّر الوطني ومهمّشيها وضحاياها الذين لفظتهم آلة التاريخ الماكر المعاصر ،فيستحضرون بدائل لا تستبدل شيئا.
يعملون ، عن وعي، على إسكات تعدّد الأصوات في جوقة التحرير الوطنيّ مثلما فعل من سبقهم ليفرضوا ، أو هكذا شبّه لهم، نشيدهم الحماسيّ الخافت دون أن يتساءلوا:ثمّ ماذا؟

2

طبعا، نتفهّم أن يكتب المنتصرون ، هنا عندنا أو هناك عندهم، التاريخ وسرديّتهم من خلاله ليأخذوا نصيبهم من حفل الرموز البهيج.ولكنّهم ، عندنا الآن، ينسون أنهم منتصرون وقتيّون.
طبعا، يقُدُّ الحاقدون والناقمون من عجينة التاريخ كعكتهم بعسل مرّ يدعون الجميع لأن يأكلوا منها في مأدبتهم البائسة التي تسمّى إعادة كتابة التاريخ وتصحيحه.بيد أنّ أكثر الناس يرفضون حضور المأدبة الفقيرة المسمومة.
يتّخذ سياسيّونا ، الآن وهنا ، كلٌّ على مقتضى معايير نحلته وقوالب ملّته،مجالا لصراعهم من أجل شرعيّة تُستمدّ من الذاكرة غير أنّها ، لسوء حظّهم، لا تباع في سوق الأفئدة والقلوب والمخيال الجماعيّ.
والمفارقة القاتلة أنّ سيل الرابع عشر من جانفي حملهم ، دون سابق تدبير ، لما سيأتي عساهم يملؤون أرضنا عدلا فعجزوا لأنّهم لم يغادروا قوقعة الماضي إذ سعوا ،كالمراهقين الطالعين من كتب فرويد ،إلى قتل الأب الزعيم للاستفراد بالأم الوطن.
3
نتفهّم أنّ ما انقضى يُكتب بأسئلة الراهن وأنّ الماضي يُصنع ، الآن ، تأليفا للمتفرّق وتأويلا للبياض واستكشافا للدلالات واستنباطا للرموز.
نتفهّم هذا كلّه ولكنّ انقلاب السياسيّين ،بأوهامهم وأكاذيبهم،  ودكاكينهم الحزبيّة ،بمصالحها الضيّقة وقصر نظرها، إلى معالجين لقضايا الذاكرة لأمر مفضٍ كما أفضى عند غيرنا إلى تهشيم الذاكرة الموحِّدة وإلى تحريفيّة مقيتة وتآويل سقيمة لن تجد إلاّ الرفض والنفور ولن تؤدّي إلاّ إلى مزيد تقسيم التونسيّين المنقسمين أصلا.
لتتلهّوا بألعابكم الناريّة التي ستحرق أصابعكم ما دمتم لا تثقون في أهل العلم بالتاريخ ، فلسِفوا الوقائع بمرايا إيديولوجيّاتكم المحدّبة والمقعّرة ولكن لا تنسوا أنّ من مضى زرع البيدر فكان ما كان .فاتركوا الموتى لأمجادهم وحقاراتهم وتساءلوا سؤالا خيرا و أبقى لكم ولنا:لقد زرعوا فأكلنا ولكن ماذا نحن زارعون في بيدر الوطن؟   

mercredi 20 mars 2013

ثلاثيّة الاستبداد



1-
يبدو أنّنا أفقنا على مكبوت اجتماعيّ أعمق وأخطر ممّا نتصوّر. فقد أخرجت إلينا شياطينُ الاستبداد ، برؤوسها الثّلاثة ، ألسنتَها هازئةً مخيفةً : لسانٌ ناطقٌ برموزِ الإيمان والاعتقاد المذهبي والطّائفي المتعصّب الذي يدّعي احتكار الحقّ الحقيقة ويغلق الأبواب أمام المخالفين. ولسان ثانٍ ناطق باسم من همّشتهم ، عبر التّاريخ ، تنميةٌ غير متوازنة فطفِقُوا من الدّواخل والبوادي يستعيدون منطق النّسب والقرابة والعصبيّة رافعين شعار "أنا وأخي على ابن عمّي وأنا وابن عمّي على الغريب". ولسان ثالثٌ يلهج بتقسيم الكعكعة وغزو مصادر الثّروة والتّحكّم في حنفيّة المال الحلال أو الفاسد أو الوافد.
ثلاثيّة العقيدة التي تؤطّر الفرد والجماعة والقبيلة التي تحدّد العلاقات بين النّاس والغنيمة التي ترسّخ اقدام الموالين وتشتري ذمم المعارضين.
ثلاثيّة قديمة صاغت ، حسب المرحوم محمد عابد الجابري ، مفردات الاستبداد وتحكّمت في تكوين مخيال المجتمعات العربيّة الإسلاميّة وواقعها على أساس التّداخل بين بنية الدّولة وبنية الاقتصاد.

2-
خِلْنَا الاتّفاقَ حاصلاً على أنّ الدّيمقراطيّة الحديثة ، باعتبارها التّنظيم المتاح تاريخيًّا للمجتمعات ، أفقٌ للبشريّة جمعاء.
ذهب في أوهامنا أنّ التّمييز بين المجتمع السّياسي والمجتمع المدني ، مؤسّساتٍ دستوريّةً وأحزابًا ونقاباتٍ وجمعيّات ، من أمارات تفكيك البنية القبليّة وصِيَغٌ للتّنظيم المدنيّ والاجتماعي يتجاوز منطق العشيرة والقبليّة.
اعتقدنا ، ولو تمنِّيًا وتفاؤلاً ، أنّ المجال فُتِحَ لتعدّد الآراء والتّصوّرات على نحوٍ يقبل الاختلاف وينبني على التّسامح بالضّرورة بديلاً عن التّفكير المغلق عقائديًّا وحزبيًّا.
توهّمنا أنّ سيطرةَ رأس المال وفتحَ السّوق فَرَضَا اقتصادًا قِوامُه مراكمة الثّروة والعمل المنتج في عصر اقتصاد الذّكاء والمعرفة.
فاكتشفنا أوهامَنا عن أوهامِنا ورأينا بأمّ العين زيفَ صورتنا عن أنفسنا. فنحن لم نغادر ، حتى بالشّرعيّة الانتخابيّة عتبات القبيلة والغنيمة والعقيدة.

3-
استفقنا فإذا بالفيلسوف الذي اطّلع على الجهاز من الدّاخل ينبّهنا إلى "تحوّل الحكم إلى توزيع مغانم في الحكومة وأجهزتها والإدارات وتوزيعها على الأقرباء والأصحاب والأحباب" بما أنّ أهل الحلّ والعقد ، وإن كانوا وقتيّين رغم حديث الشّرعيّة المصمّ للآذان ، "لم يكن من أولويّاتهم إلاّ تأييدُ بقائهم وأهليهم في الحكم" بتحزيب الإدارة واحتكار جهاز الدّولة والتّخلّي عن "مبدإ المساواة بين  المواطنين في شغل الوظائف" ، كما كتب الأستاذ أبو يعرب المرزوقي.
استفقنا فإذا ببعض من ينتمي إلى النّحل الفكريّة والسّياسيّة يتحدّث عن ضرورة نَقْلِ السّلطة، بغنائمها الممكنة ، إلى القبائل والبوادي والدّواخل وانتزاعها من أيادي محتكريها في الحواضر والسّواحل ليكون للهامش موقعُه في المجال السّياسي الرّسمي والمركزي. وأوّل الغيث قطر. فرئيسان من رؤسائنا الثّلاثة من الجنوب.
هكذا بشرعيّة مدنيّة انتخابيّة ديمقراطيّة ، تضاف إليها بعض توابل الشّرعيّة النّضاليّة والسّجنيّة ، نتأكّد أنّنا لم نغادر منطق القبيلة والغنيمة والعقيدة ، أي المنطق الذي نسجت به بردة الاستبداد الذي فرض علينا لِباسُهُ منذ قرون.
اِنفجر المكبوتُ التّاريخيّ. فمتى تُقْطَع لشياطين الاستبداد رؤوسها الثّلاثة ؟

mardi 12 mars 2013

Marginalia الحاشية والمتن: صناعة الدّكتاتور

Marginalia الحاشية والمتن: صناعة الدّكتاتور: 1 تبدو مسألة الاستقلاليّة محورًا حارقًا في ثقافتنا السّياسيّة اليوم. حديث هنا وهناك عن استقلاليّة القضاء والهيئة التّعديليّة للإع...

صناعة الدّكتاتور




1
تبدو مسألة الاستقلاليّة محورًا حارقًا في ثقافتنا السّياسيّة اليوم. حديث هنا وهناك عن استقلاليّة القضاء والهيئة التّعديليّة للإعلام وهيئة الانتخابات واستقلاليّة الجامعات. و مسألة الاستقلاليّة مطروحة أيضا بالنّسبة إلى منظّمات المجتمع المدني والمنظّمات المهنيّة وحتى الرّابطات الرّياضيّة المختلفة.
والأرجح عندي أنّ انتشار ثقافة الاستقلاليّة يحمل معه رغبتيْن مشروعتيْن. إحداهما مطابقة المعايير الدّوليّة والمواصفات المطلوبة في المجتمعات الحديثة والأخرى التّفكيك الحقيقي لمنظومة الاستبداد.
فالدّكتاتور نَهِمٌ لا يفكّر إلاّ في ابتلاع المؤسّسات والمنظّمات ووضعها تحت كلكله تسنده في ذلك الدّولة ، بمنطق المصلحة العليا ذاته إذ هي على استعداد دائم للتّعدّي على الحقوق وتساعده نزعة المجتمع السّياسي للهيمنة على المجتمع المدني.
لذلك تصبح الاستقلاليّة، في هذه المرحلة ، مرحلة الانتقال الدّيمقراطي ، المعيار الأوّل لتمييز المدافعين عن الثّورة (خارج قواعد البلاغة الثّوريّة الرّثّة) من المنحازين إلى الثّورة المضادّة ، وما أكثرهم. على هذا أرى المجتمع وأرى الكتل في مجلسنا التّأسيسي الموقّر الذي مازال قسم منه يدّعي حماية الثّورة ولم يستسغ بعد شرط البعد الحقوقي الكوني في تأسيس الدّستور الجديد بتعلاّت عفا عليها الزّمن.
2
ليس من السّهل التّخلّص من ثقافة الدّكتاتور للذّهاب مباشرة إلى ثقافة الحرّيّة. نتفهّم ذلك ولكن بعض السّلوكات والتّصرّفات تدعو إلى الحيرة.
فهيمنة السّياسي على المؤسّسات الرّياضيّة مثلاً ليست سببًا كافيًا لإلغاء مبدإ المساءلة والمحاسبة مع سلطة الإشراف خصوصًا بعد خيبة منتخبنا في جنوب إفريقيا. ليس الأمر متعلّقًا بالوزير الذي قد لا يكون في مكانه الحقيقي ، وهو اللاّعب السّاحر الذي متّعنا بالفرجة ، بقدر ما هو متعلّق بواجب أن تقدّم الجامعة ، على استقلاليّتها المكفولة ، حساباتها المالية وبرامج تحضيراتها وتربّصاتها الذي أفضى إلى مرارة عودة منتخبنا منكسرًا.
ولكنّ أخطر ما في الأمر ، هو تجرّؤ السّيد رئيس جامعة كرة القدم على مراسلة زعيم سياسي يشكو إليه الوزيرَ الذي ينتمي إلى حزبه. فبأيّ منطق مذلٍّ مازال قائمًا على رؤية أساسها المنقذ البطل الزّعيم الواحد الأحد يكتب رئيس جامعة لزعيم حزب سياسي مهما تكن قيمته في عينيه ؟ هل رحل بن علي حقًّا من عقول هؤلاء المسؤولين ؟ أليس في البلاد مؤسّسات شرعيّة ووسائل قانونيّة لمواجهة ما قد يراه هذا أو ذاك تدخّلاً سياسيًّا سافرًا في عمل جامعة رياضيّة لها استقلاليتها ؟ هل عيّنه الوزير أم الزّعيم السّياسي حتى يلتجئ إليه ؟ فما قيمة الانتخاب حينئذٍ خصوصًا أنّ رؤساء أندية كرة القدم لم يخفوا مساندتهم له؟ ما قيمة الارتباط بالجامعة الدّولية لكرة القدم التي تمثّل سلطة ماليّة وسياسية أقوى من جميع الأحزاب إلى حدّ أمكنها في أعتى الدّكتاتوريات أن تفرض مبدأ الاستقلاليّة عليها بما في ذلك على الدّكتاتور المخلوع.
فلو وجّه السّيد رئيس جامعة كرة القدم مكتوبه إلى السّيد جوزيف بلاتر ، رئيس "الفيفا" لكان صنيعه مفهومًا رغم كلّ ما سيرمى به من اتّهام بالاستقواء بالأجنبي (هي تهمة ابتذلها النّظام السّابق) أمّا أن يخاطب رئيس حزب بعينه ينتمي إليه وزير الشّباب والرّياضيّة فهذا دليل منصوب على أنّ رئيس جامعة كرة القدم مازال يستبطن خطاطة الدّكتاتوريّة وأمثاله من أكبر الأخطار على الحرّيّة التي لا يعرفون كيف يسيرون في أرجائها الفسيحة.
3
قد يبدو رهان الكرة وخيبة المنتخب الوطني ورسالة رئيس الجامعة إلى السّيّد راشد الغنّوشي وصراعه مع وزيره أمورًا ثانويّة مقارنةً بعدالة معطّلة وزيادات في الأسعار مشطّة ودستور لم يولد بعد وحكومة في سوق المزايدات البائسة وتحقيقات لم تبلغ مداها وأخطار أمنيّة محدقة وما إلى هذا ممّا نكّد به الدّهر وبعض أخوتنا في الوطن حياتَنا.
ولكنّ عظائم الأمور حين ندقّق تبدأ بصغائرها، واستقلاليّة جامعة كرة القدم التي فرضتها المعايير الدّوليّة صورة مصغّرة من الاستقلاليّة التي يرونها بعيدة ونراها قريبة، يعطّلونها بألاعيب خسيسة تليق بدكتاتور أصيل ولكنّها آتية ولا ريب.
فقط لننتبه إلى مَنْ صيغت عقولهم على مقاس الاستبداد ورضعوا حليبه فيسارعون لاستنساخ أفعاله. هم من سيصنعون الدّكتاتور.


mercredi 6 mars 2013

اللّجنة المركزيّة ونظائرها




1
ليس الاستبداد نتيجة بل هو مسار.
يبدأ كل شيء برغبة جامحة في استنشاق الهواء النقيّ الذي صادروه، بتطلّعٍ إلى أفق واسع يرتسم من أجل حياة كريمة.يبدأ بالتخلّص من تبلّد الحواسّ وثقل العادة.إحساس بالرعشة الأولى ، تتبدّل الطعوم وتُولد موسيقى جديدة ويتغيّر الإدراك.
يجوس الناس في رحلة غير معهودة بحثا عن أقوم المسالك إلى مملكة الحريّة فيتوهون قليلا ويضيعون.
ولأمر ما يسلّمون القياد لتقنيّي السياسة وبيروقراطيّي الأحزاب الذين يعدونهم ،كالعادة، بجنّات عدن فلا يجدون، كالعادة أيضا،  إلاّ الجحيم.
جمع من المتحرّقين للسلطة والهيمنة والجاه والمال والتملّك يسوّقون رغباتهم الدفينة بلغة لا ماء فيها مستمدّة من قاموس " المصلحة الوطنيّة" و " خدمة الآخرين" و " الإرادة الشعبيّة" و " الديمقراطيّة الناشئة".لغة مكرّرة بليدة.
يعود الناس إلى تفاصيل حياتهم الثقيلة.ثمّ يتوزّعون على القبائل التي يوالونها: قبائل من صنف جديد يقوم على صلات من الأوهام والأكاذيب والكوابيس والمصالح الشخصيّة والماليّة.
يسلّم الناس طوعيّا أحلامهم إلى المختصّين في بيع الرياح إلى المراكب ، إلى أولئك المستثمرين في سوق السياسة يخطّطون ويتكتكون ويقامرون فاتحين باستمرار أبواب المزايدات والمناقصات بحثا عن نصيب من الكعكعة بالمخاتلة او المناورة أو الموافقة الكاذبة أو بالاتفاق الواهم ...على تغليب المصلحة العليا للبلاد.
2
بدأ المسار منذ أمد وكان العمل جادّا حثيثا لاستجلاب المنافع وإطعام الأفواه الجائعة: مقرّب هنا ، قريب أو صديق هناك.وآثار الأيادي الخفية لا تخفَى، تُحرّك الدمى لأنها تعرف ما لا يعرفون وتتركهم يهرفون بالقليل الذي يعرفون.
وهنا تحديدا تصادر اللّجنة المركزيّة للحزب الإرادة وتختزل الأصوات جميعا.ولها أسماء غير حسنى مختلفة في اللّفظ متفقة في المعنى والوظيفة كأن تسمّيها هيئة عليا أو مجلس شورى أو سكرتاريّة الحزب.
من أعطاهم  حقّ التكلّم باسم الشعب الكريم الذي تورّط في منحهم طوعيّا شرعيّة لم تغادر الصناديق لتتجسّد في الواقع.
يتكلّمون باسم الوطن والثورة حتّى وإن فضحت الأيام والكلمات عيّهم وجهلهم بأصول الخطابة الجديدة وقوانين البلاغة الحديثة وحتّى قواعد النحو والصّرف.
وللجان المركزيّة ،هنا وهناك ،عندنا وعند غيرنا، تاريخٌ أسودُ في احتكار الحقيقة وفرض الدكتاتوريّات.
عصابات من الثقات المخلصين لأحزابهم قبل أوطانهم ولزعيمهم الفذّ قبل شعبهم.
ثلّة من الأصفياء الأنقياء تحرص على وضع اليد على الدولة ومحاصرة الخصوم في جحورهم.
عقل جماعيّ تدرّب على المناورة وتحييد جبهة المخالفين واشتراء الذمم وصياغة التحالفات وقلب الطاولة في الدقيقة التسعين لتسجيل الهدف القاتل.
قد يحتاجون إلى سفيه يتكلّم ليكذّبه العاقل.فهذا من مقتضيات الحال في بعض المقامات. ومن هذه المقامات ، تمثيلا لا حصرا، إشعال النيران لتلهية الناس وإرسال بعض وحدات الإطفاء ليشتّتوا الاهتمام ويضاعفوا الحيرة ثم يخرجون علينا بخطّة شاملة توافقيّة للوقاية من الحرائق التي أشعلوها.يبثّون الخوف يرفعون سقف الرعب ثم يطلعون ، كالبدر في الليلة الظلماء، بالحلول السحريّة التي تكون قد فقدت سحرها وبريقها.
3
قد تفلت كرة السياسة من أقدام الفريق المسمّى اللجنة المركزيّة ونظائرها فتكثر عثراتهم وهم يلهثون لاسترجاع ما فقدوا، قد يتعبون ويصاب العقل الجماعي للحزب ممثلا في لجنته المركزيّة بالنسيان أو الاختلال ، عندها يتدخّل المرجع الذي لا مرجع بعده والحجّة الدامغة القاطعة ليعيد تنظيم الصفوف ويفرض الانضباط على اللاعبين حتّى ينقذهم من الضلال الحزبيّ والتيه في ملعب السياسة والعياذ باللّه.
ولكن يوما مّا ،بعد كثير من المآسي والرعب والترهيب والدماء سيكتشف الناس أنّ اللجنة المركزيّة الجديدة التي وعدتهم بالجنّة لم تكن إلاّ نسخة مطابقة للأصل أو مشوّهة ،لا فرق، من النسخة الأصليّة التي اقتلعوها اقتلاعا ذات شوقٍ إلى الحرّيّة عارمٍ.
تعود تلك الرغبة الغريزيّة في استنشاق الهواء النقيّ وكنس الأوراق الذابلة المتساقطة من شجرة الحياة الخضراء أبدا.فحبل التسلّط والزعامات الحاقدة المفلسة كحبل الكذب قصير ، قصير بحساب التاريخ وتوقيت الوعي : الوعي بالحرّيّة.