أصوات تعمّر الذاكرة ، ذاكرتنا الفرديّة والجماعيّة، قد نسمعها متى شئنا ولكنّ وقعها وإيقاعها في رمضان بعض سرّ هذا الشهر وتجربته الروحيّة الفاتنة.
أصوات تملأ النفس خشوعا ورهبة : صوت المنشد الدينيّ يبتهل للخالق المبدع أو يدعو الواحد الأحد ،صوت بشريّ يصدح رقيقا لطيفا في تضرّعه قويّا جهوريّا في تساميه علّه يصل يبلغ السماوات العلى.
وبصمة رمضان التي لا تمحي من الأذن تلك الرعشة الحنون في صوت الشيخ على البرّاق وهو يدعو إلى حفل الإفطار مؤذنا بغروب شمس اليوم.فلا رمضان عندي دون أذان الشيخ البرّاق.
رمضان الأصوات حافل بهيّ شأنه شأن رمضان الروائح ومباهج العين ، وأطاييب الروح و فاكهة المعنى.
-2-
رمضان في الإذاعات والفضائيّات شهر أيضا للمدائح النبويّة والابتهالات الدينيّة والإنشاد الذي يسبّح للملكوت ويدعو إلى قيم الإسلام وعبادة الرحمان الرحيم.
ولا شكّ أنّ لهذا اللون من الفنّ الدينيّ تاريخا يعرفه أهل العلم بالموسيقى والمقامات والأصوات. وله أصول وقواعد تشكّلت عبر العصور وجوّدتها أجمل الأصوات العربيّة وطوّرها كبار الملحّنين والموسيقيّين. ولهذا النوع من الفنون الدينيّة خصائص وميزات ندركها حدسا وعلمها عند المختصّين والعارفين.
ولكنّنا نحبّ ان نتحدّث عن جانب منها فحسب لافتٍ نحسب أنّنا في حاجة إلى نقده والتفكير فيه.ونقصد تلك القصائد التي يبتهل بها وتلك القطع الشعريّة التي تلحّن فتجلو الأصوات الجهوريّة معانيها.فالحقّ أنّ ما ينتهي إلى مسامعنا في رمضان وغير رمضان من غناء دينيّ بمختلف أنماطه كلماته من صنف النظم الذي يكرّر المألوف ولا يبتكر الجديد.فكأنك، لشدّة تشابهه، تسمع نصّا واحدا طويلا يجزأ إلى مقاطع في كل مرّة يغنّى منه مقطع.إنّه أشبه بما سبق لك سماعه لولا حسن هذا الصوت أو ذاك.
ولا تثريب في الأمر لو لم تخرج الموسيقى العربيّة من قالب التكرار الطربيّ لتغامر في مفاوز الهرمونيا والتعدّد الصوتيّ.
ولا عيب في استرجاع المعاني المتداولة لو لم يخض الشعر العربي منذ ما يناهز القرن تجارب عدّة لتجديد مسالك القول وتحديث الأساليب على نحو يعبّر عمّا يعتمل في نفس الإنسان العربيّ المعاصر.
-3-
كيف يمكن للشعر الذي يقول تجربتنا الروحيّة الفرديّة والجماعيّة ويخاطب بعدَ المقدّس فينا أن يظلّ مشدودا لطرق القدماء في القول ومنهجهم في استنباط المعاني؟
ألا يجدر بشعرائنا ان يقولوا المقدّس ، يستلهمونه أو يطرزون على حواشيه روحانيتهم العميقة، بلغة عصرنا وعلى مقتضى أوجاع الروح وأشواقها اليوم؟
لمَ نسمع الدين والروحانيّات بآذان الأسلاف وهم رجال ، في عصرهم ، تفاعلوا ، في عصرهم ، مع المتن الديني وجها من التفاعل، ونحن رجال ونساء يدعونا عصرنا ، كما دعاهم ، إلى أن نحلّق بأجنحتنا الخاصّة في سماء الروح وينتظر منا اهل زماننا ان نحاور الّلغة المعجزة وما تحمله من شوق إلهيّ بلغة تساير ما في قلوب المؤمنين اليوم ..في الآن والحال التاريخيّين.
مسافة تحتاج إلى مقايضة، إنّها المسافة القائمة بين الذاكرة التي نستعيدها استعادة تكرار قد نحنّ إليه وبين الذاكرة التي نبتكرها لنقول بها وجودنا النفسيّ ورمزيّتنا الحديثة ومغامرتنا الروحيّة.