لم أر في تاريخ السياسات اللغوية، أعجب من علاقتنا، نحن التونسيّين، بلغتنا العربية. فـهي مـن عناوين سيادة الدولة ، لكنّنا نجد بعض هياكل هذه الدولة لا تتورّع عن استعمال الفرنسية في مراسلاتها أو تقاريرها أو وثائقها .فكأنّها سلطة لا تريد أن تبسط نفوذها و تتخلى طوعيّا ،ولو على نحو رمـزي، عن بعض سيادتها .
والعربيّة لغة رسمية لكننا مازلنا نعتمد لغات أخرى في تدريس بعض المواد العلمية لأطفالنا بحجة ،ضمنية أحيانا و صريحة أحيانا أخرى، مفادها أنا الـعربية ليست لغة العلم! و الحال أن المواثيق الدولية في مجال الحقوق اللغوية تمنح أبناء الشعوب الحقّ في التعليم باللغة الوطنية، و تثبت الدراسات في مجال التعلم أن مردوديّة التعلّم باللغة في المواد الـعلمية أرفـع وأنجح.
والأخطر من هذا أن العربية ، بصفتها لغة وطنية ، كانت منذ عقود محل جدل إيديولوجي عقيـم يحتدّ أحيانا ويخفت أحيانا أخرى. و هو جدل مداره على الهوية بحكم الترابط التاريخي و الوجداني بين اللغة العربية و الدين الإسلامي .فأدى ذلك إلى دعوات أقرب إلى الانغلاق الغبي على هوية قلقة، ترى نفسها مهددة من الخـارج فتستعيد فزّاعة الاستعمار الثقافي عبر لغة المستعمر السابق لتنكفئ على لغة عربية تراثية محنطة ترفعها إلى مصاف القداسة .
و بالمقابل ظهرت دعوات نخبة قليلة جاهلة بلغتها الوطنية تعيش في مجتمعها العربي و لكن الهوى فرنسي وتزعم باسم هوية منفتحة زائفة أن الفرنسية مدخلنا إلى التحديث العلمي و التكنولوجي أما العربية فهي لغة المساجد و الخطاب الاجتماعي والسياسي المتخلّف .
لذلك لا تعجب إن رأيت عندنا قوما يرفضون لغة الآخر حتى عند التعلم كما لو كان رصيد الإنتاج العربي بالعربية أو المترجم إليها كافيا لمتابعة حركة الذكاء الإنساني العالمي. و لا تعجب إن رأيت قوما ثانيا لا يرى ضيرا في العجز عن استعمال لغته الوطنية كما لو كان إتقان الفرنسية كافيا للارتقاء إلى مصاف الأمم المتقدمة .
إنهما وهمان خطيران متقابلان ولكنهما يلتقيان إيديولوجيا في الوعي الزائف بمقتضيات السياسة اللغوية و ما لها من انعكاسات على التنمية الاقتصادية و العلمية والاجتماعية ومن أثر في التنمية البشرية العامة.
والمفارقة عندنا رغم كل هذا أنّ الواقع اللغوي التونسي ليس بالسوء الذي يبدو للمتدخلين الإيديولوجيون في المجال اللغوي.وربّما احتجنا إلى التثبت من هذا الأمر ونحن نحتفل في الفاتح من شهر مارس بيوم اللغة العربية الذي أقرته الألسكو.
فالعربية المنتشرة في مدارسنا ووسائل إعلامنا وإدارتنا، (سواء كانت الفصحى أو الدارجة )عربية مؤدية للأغراض، حديثة، قادرة على إداء المفاهيم اللازمة لإدارة محادثة في الاقتصاد أو الاجتماع أو السياسة أو الفكر والثّقافة عموما . والأهم من ذلك أن النخب الفرنكفونية نفسها قد بدأت تعي أهمية التخاطب بالعربية وبدأت تتدرب على استلهام روح اللغات الأخرى لإدارة الحوار في الفضاء العمومي الواقعيّ والافتراضي.
وفي الأحوال جميعا للعربية مؤسسات تحميها وللغات الأخرى فضاءات تعلمها أبرزها الجامعة والمدرسة أي مفخرتا دولة الاستقلال مهما تكن المشاكل التي تعانيان منها اليوم بعد تخريب منهجي سافر تعرضتا له منذ عقود.
إننا أمام حركة مزدوجة مطلوبة في سياستنا اللغوية إذ نحتاج ،من جهة، إلى تدعيم العربية باعتبارها لغة حديثة على قدر عراقتها وإلى إقحامها في معترك الحداثة لتستلهم روح اللغات والثقافات الأخرى فتستفيد من التّطور التّكنولوجي المتسارع دون خشية على أنموذج أصلى لها موهوم ونحتاج، من جهة أخرى، إلى تدعيم جادّ قوي لجميع اللّغات الممكنة المعبرة عن الثقافات المؤثرة في الفكر العالمي أو الحاملة لذاكرة إنسانية ثرية وعلى رأسها الإنكليزية وبعض اللغات الأوربية والآسيوية.
لقد صمدت العربية في تونس و تجددت وأصبحت بالفعل لغة حديثة ولكنها لن تتقوى بالإيديولوجيا والعواطف وتنقية المجال اللّغويّ من الفرنسيّة أو غيرها من اللّغات بل تتقوّى بتدعيمها مؤسّسيا من خلال تجديد مناهج تعليمها والكتابة العلمية بها والترجمة إليها واحتكاكها باللغات الأجنبية.
لتتعدّد اللّغات عندنا فكلّها غنائم لنا وغنم كبير للغتنا الرائعة.