في محاورة من نقد رسالة رؤساء
الجامعات إلى رئيس الحكومة المكلّف
جريدة المغرب، بتاريخ 16 - 08 - 2016
كان رؤساء الجامعات التونسيّة قد وجّهوا رسالة مفتوحة
إلى السيّد رئيس الحكومة المكلّف تضمّنت دعوة إلى "الإصغاء إلى مقترحاتهم في شأن
من سيتولّى حقيبة التعليم العالي والبحث العلميّ" معلّلين دعوتهم بما عاشه
قطاع التعليم العالي والبحث العلمي "خلال السنوات الماضية من تراجع وتفاقم للمشاكل
وعجز عن تطوير منظومتي التكوين والبحث" وهو ما يتطلّب، بالنسبة إليهم، توفّر
شرطين: أولهما "تعيين وزير ملمّ بمشاكل القطاع إلماما دقيقا وله رؤية إصلاحيّة
حقيقيّة وجرأة كافية لاتخاذ القرارات المناسبة" وثانيهما "تخصيص كتابة دولة
للبحث العلميّ" مع التحذير "من الفكرة الرائجة لتجميع ما يتّصل بالتربية
والتعليم والبحث العلميّ في هيكل واحد".
ومهما يكن الاختلاف مع ما قدّمه رؤساء الجامعات
التونسيّة مشروعا فإنّ ما نبّهوا إليه جاء نتيجة لممارستهم اليوميّة من خلال
موقعهم الوظيفي ومعاينتهم لحال المؤسّسات الجامعيّة وطريقة عمل هياكل وزارة
التعليم العالي المختلفة.
وفي هذا الصدد طالعنا في صحيفة "المغرب"
بتاريخ 14 أوت 2016 بالصفحة الثالثة مقالا نقديّا للزميلين الفاضلين عبد الستّار
السحباني ومنير الكشو. ولو اكتفى الزميلان بمناقشة الأساسيّ في رسالة رؤساء
الجامعات المفتوحة لاعتبرنا ذلك أمرا مطلوبا في هذه المرحلة السياسيّة. وأنبّه منذ
البدء إلى أنّني أناقش الزميلين باسمي الشخصيّ لأنّني لا أحبّ النزعة القطاعيّة
التي صارت سائدة في بلادنا. فرؤساء الجامعات ليسوا فوق النقد، بمن فيهم كاتب هذه
السطور، ولكن للنقد أصوله وأخلاقيّاته.
بيد أنّ ما استغربناه أن يترك الزميلان الفاضلان القمر
الذي أشارت إليه الرسالة ليتطلّعا إلى الإصبع على ما في المثل الصينيّ. والإصبع في
حكاية الحال هو أهليّة رؤساء الجامعات في مخاطبة السيّد رئيس الحكومة المكلّف
والحال أنّهم مشاركون في "جريمة" تدهور التعليم العالي!
هذا ما حيّر الزميلين الفاضلين فطفقا يبرزان أنّ رؤساء
الجامعات "أصحاب قرار وجزء من سلطة الإشراف" ولكنهم في رسالتهم
"يتفصّون من المسؤوليّة (...) ليلقوا بها على عاتق الوزير الحالي
وإدارته"( وهذا خطأ بيّن لأنّ الرسالة لم تخصّ بالذكر الوزير الحالي بل ذكرت
ضمنيّا جميع الوزراء). وينقلبون مدافعين عن الإدارة المركزيّة بما أنّ المسؤوليّة
مشتركة!
وللأستاذين الفاضلين أدلة دامغة على ذلك:
"فرؤساء الجامعات فشلوا في جعل مجالس جامعاتهم أطرا لتقديم مقترحات حول إصلاح
المنظومة (...) ولم يستطيعوا تشكيل قوة وازنة داخل مجلس الجامعات". وانتقل
الأستاذان إلى التساؤل عن سبب سكوت رؤساء الجامعات كل هذه المدّة؟ ولم لم يستقيلوا؟
وردّنا بكلّ بساطة أنّ الزميلين قد يكونان في عطلة
دراسيّة مطوّلة جدّا ولا علم لهما بما طرأ في السنوات الخمس الأخيرة في المؤسّسات
والجامعات والوزارة. فما قام به رؤساء الجامعات لمنع "كوارث" عديدة في
مجلس الجامعات نفسه منذ خمس سنوات أكثر من أن يسرد. وعذر زميلينا أنهما لا يعلمان
بما يجري في مجلس الجامعات.
ولكن يبدو
أنّهما لم يسمعا بالمناقشات التي دارت طيلة أربع سنوات حول تشخيص مشاكل المنظومة
الجامعيّة والمقترحات التي قدّمت داخل لجنة مشتركة بين ممثّلي الجامعات ونقابة
الأساتذة (وأحد صاحبي المقال مسؤول نقابيّ معروف!) والإدارة المركزيّة ولم يشاركا
في اللقاءات العديدة التي عقدتها الجامعة العامّة للتعليم العالي مثلا. هذا إذا
كانا يتابعان ما يجري في مؤسّستيهما وفي جامعتيهما وفي مستوى وطني، خصوصا لجنة
الإصلاح التي كان يترأسها رئيس جامعة تونس المنار السابق.
فلا حاجة لرؤساء الجامعات، كما طالب الزميلان في
الفقرة الثالثة من المقال، بتقديم تشخيص للمشاكل في رسالة مفتوحة لها غرض محدّد.
فقد تعلمنا في تحليل الخطاب ألاّ نخلط بين أجناس القول دون سبب وجيه.
وليس في ما قلنا تفصٍّ من المسؤوليّة بل إثبات
حقيقة يعرفها الجميع مفادها أنّ كلّ مقترحات الإصلاح لم تجد مع السيّد الوزير
الحالي ومن سبقه إلاّ التردّد والتأجيل والتسويف في جليل الأمور وبسيطها. فممّا
يدلّ على أنّ رؤساء الجامعات تحمّلوا مسؤوليّتهم، على قدر الجهد والطاقة، في واقع
سياسيّ غير مستقر ( خمس وزراء في خمس سنوات!) أنّهم تقدّموا منذ سنة تقريبا بمشروع
قانون للتعليم العالي يعوّض قانون 2008 سيء الذكر إلى السيّد الوزير الحالي بعد أن
ناقشت المجالس العلميّة في المؤسّسات ومجالس الجامعات صيغتين أوليين منه وقدّمت إلى
جميع النقابات في التعليم العالي (الأساتذة والطلبة والموظّفين والعملة) نسخا منه
لإبداء رأيها. ولكن يبدو أنّ الزميلين لا يشاركان في ما يجري
من نقاش في مؤسّستيهما.
وبالمناسبة هذا بعض نشاط "مجلس رؤساء
الجامعات" (والتسمية الرسميّة في الرائد الرسميّ هي "ندوة رؤساء
الجامعات التونسيّة") الذي لم يسمع به الزميلان إلاّ عند تغيير الوزراء
تلميحا ربّما لبحث بعض رؤساء الجامعات أو كلّهم ربّما عن منصب سياسيّ!.
ونحن نعلم
علم اليقين أنّ أحد الزميلين، على الأقلّ، قد استبشر بموقف رؤساء الجامعات خلال
الأزمة الخانقة التي عاشتها البلاد في صائفة 2013 واليوم لا يذكر إلاّ رسالتين إلى
رئيسي حكومة مكلّفين! فلا نطلب من جامعيّيْن وأستاذين جليلين إلاّ شيئا من النزاهة
أو على الأقلّ حسن التوثيق. وعلاوة على
ذلك قدّم رؤساء الجامعات مقترحات عمليّة ومشاريع إصلاحيّة أخرى عديدة تشاوروا فيها
وتقدّموا بها إلى سلطة الإشراف. ولكنّ غياب الإرادة السياسيّة والجرأة وأحيانا
المصالح القطاعيّة الضيّقة والحزبيّة والآراء المسبقة والمحافظة وعدم الإلمام
بأدبيّات التعليم العالي في العالم لدى السادة الوزراء هو الذي عطّل التنفيذ.
وليعلم الزميلان الفاضلان أنّ بعض رؤساء الجامعات
قاطعوا في فترة مّا مجلس الجامعات احتجاجا على انعدام الرغبة في الإصلاح والعجز
السياسيّ. ثمّ ظلّوا مع كلّ وزير جديد يتباحثون في أجندا للعمل فيرحّب ويظهر
القبول ولكن سرعان ما يتبيّن أنّه لا يمتلك الأدوات الكفيلة بتطبيق سياسة إصلاحيّة
جدّيّة. فالواقع لمن يعلم تفاصيله، أو على الأقلّ لمن يسأل قبل أن يتحدّث حديث
العارف وما هو بعارف، أنّ رؤساء الجامعات "لم يسكتوا" كما يزعم الزميلان الفاضلان ولكنهم لم يستقيلوا
لأنّ مقاطعتهم للوزارة لا تمنعهم من مواصلة العمل في جامعاتهم حتّى لا تنهار.
فقد تقدّموا لهذه المسؤوليّة عن وعي
وحازوا ثقة زملائهم بالانتخاب ليؤدّوا واجبهم الجامعيّ فلمَ يريد منهم الزميلان أن
يستقيلوا؟ هل احتجاجا على وضع انتقاليّ غير مستقرّ أو إعلانا لفشلهم في جامعاتهم
أو من باب البطولة الزائفة أو حتّى لا يتّهمهم أمثال الزميلين بالفشل والعجز؟ وقبل
ذلك وبعده، لمَ لمْ يطالب الزميلان الفاضلان باستقالة رؤساء الجامعات، أو السيد
رئيس الجامعة التي ينتميان إليها أي جامعة تونس، وهما في ما يبدو من كلامهما
يعرفان المشاكل التي يتحمّل رؤساء الجامعات المسؤوليّة فيها؟ فعلا لقد كان من
الأنسب للزميلين أن يبتعدا عماّ اعتبراه لدى أصحاب الرسالة المفتوحة "أسلوب
من يمتلك الحقيقة ويقدّم النصيحة للآخرين". ولكن يبدو أنّ الواحد منّا لا يرى
إلاّ عيوب غيره.
إنّ ما ذكرناه لا يعدو أن يكون من باب جعل بعض
الأحكام والتقريرات الجازمة التي جاءت في مقال الكشو والسحباني نسبيّة. وكان يجدر
بأستاذين للتعليم العالي في الفلسفة وعلم الاجتماع أن يتحرّيا قبل إطلاق العنان
للاتّهامات المجانية.
ونمرّ على تفاصيل كثيرة وتلميحات غير لائقة تضمّنها
المقال لنعود إلى الجوهريّ في نقد الزميلين لرسالة رؤساء الجامعات. فحين نتثبّت
نجد الأمر محصورا في نقطتين أبدأ بأبسطهما.
فالزميلان يعتقدان، عكس ما ورد في الرسالة
المفتوحة، أن فكرة قطب للتعليم يضمّ التربية والتعليم العالي والتكوين المهنيّ (لا
أدري هل يضمّ البحث العلمّي أم هو سهو منهما) جديرة بالنظر والنقاش. ولا خلاف في
هذا. فالحوار حول مثل هذه المسائل مشروع وضروريّ. وكم كنت أودّ أن يبرهنا على
رأيهما بدل الاحتجاج باعتماد فرنسا على مثل هذا الاختيار. ففرنسا لم تعد أنموذجا
للاحتذاء والتجارب الناجحة في العالم كثيرة. وإضافة إلى ذلك فإنّ الربط التنظيميّ
بين مستويات التعليم في فرنسا قديم من خلال مفهوم آخر هو "الركتورا" لا
الجامعة. أمّا ما جاء في الرسالة المفتوحة فمبنيّ على أنّ واقع الدمج بين التعليم
العالي والبحث العلميّ في تونس أضعف البحث العلميّ فما بالك إذا أضفنا إليه مشاكل
التربية التي تبدو في حدّ ذاتها مستعصية. فنحن نحتاج حينئذ إلى وزير سوبرمان ليؤدّي المهمّة المستحيلة في تقديري.
ولكن ما لم نفهمه حقيقة هو نقد الزميلين لملامح
الوزير المطلوبة. فقد طالب رؤساء الجامعات بوزير له ثلاث صفات: يعرف القطاع، وله
مشروع إصلاحيّ، وجريء. وهي صفات مترابطة متدرّجة تجمع بين التشخيص وتصوّر الحلول
والتنفيذ. ولكنّ الزميلين الفاضلين يخبطان في هذه المسألة خبط عشواء. فقد فهما من
هذا أنّ المطلوب تعيين "خبير" أو "تقنيّ". فهل كلّ من يعرف
القطاع هو خبير وتقنيّ؟ وهل كل تقني وخبير يمتلك تصوّرا إصلاحيّا؟ وهل كل من يمتلك
تصوّرا إصلاحيّا جريء؟ أسئلة ساذجة نقدّمها لزميلينا عسى أن نفهم وجه اختلافهما مع
ملامح الوزير الذي يطالب به رؤساء الجامعات.
إنّ المطلوب عندهما هو "شخصيّة سياسيّة تحظى
بسند حزبيّ" فالإصلاح المنشود "لا يحتاج إلى قرارات تقنيّة وإنّما
سياسيّة بالأساس" (كذا!). ويضيفان أنّ شرط انتماء الوزير إلى سلك الجامعيّين
غير مطلوب لأنّ "الإصلاحات العاجلة واضحة ومعروفة"! ولكن أنّى لنا ذكاء
الأمير لنفهم ما قال الزميلان؟
إذن ما "حيّر" الزميلين في رسالة رؤساء
الجامعات وأثار "استغرابهما"، على حدّ تعبيرهما، أنّهم لم يطالبوا بوزير
سياسيّ أو مسنود من "حزب أو تحالف أحزاب" للتعليم العالي! وهنا ليس لنا
إلاّ أن نكبّر ونهلّل لهذا المقترح العبقريّ. ومادام الأمر يحتاج إلى تحالف حزبي
فهل يقصدان أن يكون من النهضة أم من النداء؟
نشير أوّلا إلى أنّ التعليم العالي لم يعرف منذ ربع
قرن وزيرا من غير الجامعيّين سواء قبل الثورة أو بعدها. بل إنّ بعض الوظائف في
هيكل الوزارة لا تسند إلاّ إلى جامعيّين من أساتذة التعليم العالي لأسباب تكاد
تكون بديهيّة لمن يعرف العلاقة بين السلطة الإداريّة والسلطة الأكاديميّة. ونستغرب
أن يطالب أستاذان للتعليم العالي بأن يكون وزيرهما أدنى منهما رتبة أكاديميّة!
فبأيّ منطق يفكّران وأيّ مصلحة يدافعان عنها؟ وهل فكّرا في وضعيّة هذا الوزير
المسكين ضمن حشد من أساتذة التعليم العالي في مجلس الجامعات إلاّ إذا كانا يفكّران
في سياسيّ وحيد دهره لم تنجب البلاد مثيلا له؟ إنّها نباهة سياسيّة أعترف بعجزي
شخصيّا عن إدراك أبعادها وأسرارها.
وإذا تركنا جانبا الجدال العقيم حول التكنوقراط
الحقيقيّين والمزيّفين، وقد جرّبناهم في التعليم العالي ولم يفعلوا شيئا،
والسياسيّين، ولم يكن مرورهم بالتعليم العالي بأفضل من التكنوقراط بنوعيهم، فإنّني
أسأل الزميلين سؤالا ساذجا: هل اطّلعا على برامج الأحزاب السياسيّة في مجال
التربية والتعليم العالي والبحث العلميّ بمناسبة الانتخابات الأولى والثانية؟ وهل
وجدا فيها ما يزعمانه من وضوح التشخيص ووضوح الحلول؟ وهل سينفّذ السيّد الوزير
المقبل برامج حزبه أم انّه سيعيد التباحث والتشاور مع مختلف الأطراف لوضع مشروع
إصلاحيّ وإقناع الناس به كما ذكر الزميلان؟ ألم يسمعا ولو عن طريق الصحف بما تمخّض
عن الحوار حول إصلاح منظومة التعليم العالي الذي جرى منذ أربع سنوات وقدّمت نتائجه
في كتيّب مبذول لكلّ الجامعيّين؟ فهل ننتظر من السيّد الوزير الجديد أن يبدأ من
أرض محروقة؟ إذا كان الزميلان يعتقدان حقا في ذلك فإنّ الاستقالة بالنسبة إليّ
تصبح فعلا أمرا عاجلا ونسأل الله عندها حسن المآل.
أرجو أن تحمل ملاحظاتي السابقة على محمل التفاعل
المواطني مع بعض ما نشره الزميلان من رأي ولست أتكلّم في هذا المقال إلاّ برأيي
الشخصيّ . فلئن لم أكن منتميا سياسيّا لأيّ حزب فإنّ سياسة المدينة تعنيني بقدر ما
تعنيني السياسة الجامعيّة. وقد علّمتني تجربتي المتواضعة في التسيير الجامعيّ
الحذر من النقد الذي لا يرتكز على معطيات موضوعيّة للدفاع عن مواقف لا تقال على
نحو مباشر. وفي مقال الزميلين الفاضلين من هذا وذاك الكثير مع احترامي لرأيهما.
ولا يفوتني أن أعبّر عن استغرابي ممّا وقع فيه
الزميلان من شعبويّة مرّتين في المقال بالحديث عن ترتيب الجامعات التونسيّة. لقد
كتبنا في المسألة من قبل وأحد صاحبي المقال يعرف ذلك جيّدا ووضّحنا أنّ منطق السوق
العالميّة للتعليم العالي لا ينفصل عن منطق السوق في جميع مناحيه فلا معنى
لاستخدام هذه الحجة ضدّ أيّ كان. وعلاوة على ذلك أذكّر المغرمين بأولمبياد الترتيب
العالمي للجامعات بأنّ عليهم أن يتثبّتوا من ميزانية أصحاب المراتب الأولى ونسبتها
بالمقارنة مع ميزانيّة الدولة التونسيّة كلّها وأدعوهم بالمناسبة إلى أن يطّلعوا
على ميزانيّات جميع الجامعات التونسيّة فهي منشورة بالرائد الرسميّ. فقليل من التواضع
والجدّيّة لا يزعج البتّة أحدا.